كلما مرت السنين وأمتد الزمان تاركاً أقل القليل من بصماته في ذاكرتنا، متعللاً بآفة النسيان تارة ومستنداً إلى بقايا أحداث تبدو محفورة في أذهاننا ولكنها في غياهب النسيان ، في مثل هذا الحين ينعم علينا الحظ السعيد ببعض من الشخصيات المصرية المخضرمة التي عاصرت فترتين أو حقبتين من الزمان والتي لم تدخر جهدا بحفظ وتوثيق هذه الأحداث الهامة بأسلوب شيق وممتع أقل ماتوصف به بأنها موسوعة تاريخية يندر أن تجود المكتبات بمثلها.
فعلى مدار خمسة وثلاثون عاماً تزامناً مع ثورة يوليو المجيدة مروراً بنكسة حرب يونيو وأنتهاء بأحداث إنتفاضة يناير لعام ألف تسعمائة سبعة وسبعون ميلادية يدور بنا الكاتب والسياسي المخضرم محمد سلماوي أحد أهم رموز الثقافة والصحافة في مصر والوطن العربي بأحداث مثيرة كان شاهد عيان على معظم أحداثها وأرتبط معها ومعنا من خلال ذكريات سعيدة وأخرى مريرة في تاريخ الزمن تاركاً في الجزء الأول من كتابه – يوما أو بعض يوم – مذكرات منسوجة لشخصيات سياسية مرموقة وأدباء عاش معهم في بلاط صاحبة الجلالة جريدة الأهرام العريقة والتي كانت تلقب بمتحف الخالدين آنذاك تيمناً بضمها لنخبة مختارة بعناية لأهم رموز الكتابة والأدب والصحافة في ذلك الوقت.
تطورت الميول الإذاعية للكاتب بعد إلتحاقه بالجامعة وبعد إنشغاله بالبرنامج الإذاعي في مدرسة فيكتوريا كوليدج – حيث درس الكاتب بها - ليتطور الأمر تباعا ويصبح مذيعا في البرنامج الأوروبي بالإذاعة المصرية وكان هذا أول عمل رسمي للكاتب يتقاضى عنه أجراً. وبمناسبة الحديث عن المدرسة التي تخرج منها الكاتب والتي حفرت في أذهانه وفي وجدانه وهو لم يبلغ الحادية عشر من عمره إشتعال الشعور الوطني في البلاد آنذاك بسبب أزمة السويس وتطوراتها والتي أدت في النهاية الى تمصير المدرسة العريقة بعد الحرب وطرد الإنجليز من مصر ليصبح أسم المدرسة " كلية النصر" ليهبط مستواها ومستوى التعليم بعض الشيئ خلافا على دورها الريادي الذي عهدته منذ إنشائها.
يتحدث الكاتب في فصول متفرقة عن أهم الأدباء الذين عاصرهم عن قرب وعمل معهم فترات أمتدت لسنوات طويلة ومنهم على سبيل الذكر الكاتب والروائي إحسان عبدالقدوس الذي أعجب به الكاتب محمد سلماوي أشد الإعجاب ومن دواعي هذا الإعجاب إستطاعته " أعني " الكاتب إحسان عبدالقدوس من كتابة قصة جديدة كل أسبوع في مجلة صباح الخير والأدهى من ذلك نشرها مباشرة في الصحف والمجلات وعدم مراجعته لها بعد الإنتهاء منها خشية أن يظل يغير ويبدل فيها وهو ما لاتسمح به ظروف الطباعة في ذلك الوقت ويعزي ذلك الى عبقرية فذة من الكاتب إحسان عبدالقدوس لمواكبته ظروف الموقف آنذاك خلافا لما هو سائد الآن من سرعة التطور التكنولوجي التي تتيح تعديل وتنسيق ومراجعة المقال عدة مرات قبل ظهوره على صفحات السوشيال ميديا.
يتطرق الكاتب بعد ذلك مبديا إعجابه الشديد بالكاتب المسرحي الفرنسي "جان بول سارتر" الذي قرأ له العديد من المسرحيات ومن بينها " العادلون" و "سجناء التونا" و" الشيطان والرب" التي أدهشه فيها فلسفته الفذة عندما يتحدث الشيطان للرب " أنت تحتاجني بقدر ما أحتاجك لأنني الضد والأشياء لاتعرف الإ بأضدادها " ويشير الكاتب إلى مدى تطور النظام الفلسفي إبان هذه الحقبة من الزمن.
الممتع كذلك بين صفحات الكتاب التنوع العديد بين شتى مجالات القراءة في الأدب والفن والمسرح التي إطلع عليها الكاتب مشيراً على سبيل المثال للكثير عن قراءاته المتعددة في الفن التشكيلي وخاصة بيكاسو تلك العبقرية النادرة التي لن تتكرر بالاضافة الى ليوناردو ورفائيل وماتيس وجوجان وجويا وتولوز -لوتريك وبرنار بوفيه وإل جريكو والعديد من الأسماء اللامعة أيضا في مجال الأدب أمثال كافكا وأوسكار وايلد وألبير كامو ووليام فوكنر وجان كوكتو وفرانسواز ساجان وأسماء أخرى يرى الكاتب فيها أنها بمثابة موسوعات لا غنى للكاتب والقارئ المثقف أن يكون ملما ببعض جوانبها .
يحضر في هذا السياق حديث الكاتب محمد سلماوي عن أدب وتواضع أديب نوبل العالمي – نجيب محفوظ – والذي كلفه الأخير بحضور حفل مراسم جائزة نوبل ولاعجب في ذاك الإختيار الموفق والمشرف حيث يخبرنا محمد سلماوي بقرب صدور مجموعة قصصية له أرسلها الناشر في بروفاتها النهائية ، وقررالكاتب أن يهدي هذه المجموعة القصصية لعم نجيب متشرفا بأن يكون هو أول من يقرؤها قبل صدورها للنشر ثم وضعها في مظروف مغلق وكتب عليها إسم الأديب العالمي ليفاجئ بعد عدة أيام بأن الأديب كتب إسم الكاتب محمد سلماوي على المظروف نفسه وأعادها مرة أخرى الى مكتبه ، فعلل ذلك بغضب أديب نوبل لأنه أهداه كتابا لم تكتمل طباعته بعد ، ليفاجئ الكاتب بأن الأديب قد قرأها جميعا ووضح له بعض الملاحظات الطفيفة مدونة بالقلم الرصاص حتى يتسطيع الكاتب أن يمحوها بالأستيكة إذا لم يقتنع بتلك الملاحظات!
أكتفي بهذ القدر الضئيل من تفاصيل الكتاب الذي يعتبر من أهم السير الذاتية التي ظهرت خلال العقد الأخير حسب إشارة الكاتب إيهاب الملاخ ودمتم قارئين .
التعليقات