(كن إبراهيميًا في وصولك)
الثقة . . كلمة لها وقع جميل على الآذان تحمل معانٍ إنسانية تعشقها النفس البشرية، فكل منا يريد أن يغتنم ما يقدر عليه من معاني هذه الكلمة من خلال علاقاته الإنسانية. . ولكن دعنا نعرف المعنى اللغوي لهذه الكلمة التي تسلبنا الكثير من الحرية دون أن ندري.
يقول صاحب لسان العرب:
الثِّقَةُ مصدر قولك وَثِقَ به يَثِقُ بالكسر فيهما وثاقةً وثِقَةً ائتمنه وأنا واثِقٌ به وهو موثوق به وهي مَوثوقٍ بها وهم موثوق بهم. . . والوَثِيقُ الشيء المُحْكم والجمع وِثاقٌ ويقال أَخذ بالوَثِيقة في أمره أي بالثِّقَة وتوَثَّق في أَمره مثله ووَثَّقْتُ الشيء تَوْثِيقاً فهو مُوَثَّق والوَثِيقة الإحكام في الأمر والجمع وَثِيق من هذا الكلام نستطيع أن نستخلص أن الثقة هي إحكام الأمر..
جميل هي تلك المعاني . . ولكن أي جرم نرتكبه بهذه الثقة؟ إنه جرم لا يغتفر . .. جرم عظيم . . .
إنه احتلال العقل . . نعم احتلال العقل بالثقة. . .
في أول عمرنا . . نثق بوالدينا والأقربين منا ونثق فيهم . . ومن منا لم يثق في أبويه . . هل هذه دعوة لعدم الثقة؟ لا إنها دعوة لإحكام الأمر.. ثق فيمن تحب ولكن أحكم الأمر واستوثق منه.
أول احتلال عقلي بسبب هذه الكلمة الجميلة هو احتلال العقيدة!!!
نولد أبرياء لا حول لنا ولا قوة . . نثق كالآخرين في أبوينا . . نتدين بدينهم . . وهنا المصيبة!!
من منا استوثق من هذا الأمر؟ من منا بحث في الأمر وأحكمه؟ من منا اعتنق ديانة أبويه بإعمال عقله؟
في أغلب الأحوال سيكون الجواب بلا أحد.
كيف تقتل الثقة فينا روح البحث؟
كيف تحتل الثقة عقولنا وتعطلها عن عملها؟
كيف تجني الثقة على حياتنا؟
بداية لابد أن نعرف ما هي الغرائز:
الغريزة هي استعداد فطري مورث يدفع الكائن الحي لسلوك خاص في موقف معين
إن أول ما يتولد لدى الإنسان من الغرائز غريزة الحياة. فنجد الطفل مجرد أن يولد، لم يلقنه أحد كيف يتلقف ثدي أمه ولا كيف يمصه لينزل له اللبن اللازم لبقائه على قيد الحياة. وعلى الرغم من هذا نجد الطفل يبكي بمجرد شعوره بالجوع - إشعاراً بذلك- وما أن تضعه أمه على صدرها حتى يحاول أن يتلقف حلمة ثديها، ويمتص ما بها من لبن!!
ويقال أن ثاني غريزة تولد مع الإنسان هي غريزة حب الاستطلاع التي هي من أقوى الغرائز التي تحث الإنسان على البحث. فنجد الطفل يبدأ جلب معلوماته بالتساؤل عن كل شيء. وهنا تبرز أهمية الثقة. وكيف نديرها لصالح العقل البشري.
تساؤل الأطفال دائماً موجهة إلى أقرب الناس إليه، والديه، ويبدأ عقله بتحليل إجابات تلك التساؤلات ومن هذا التحليل يكتسب الثقة في ذويه. وبعض الإجابات تجعله يركن إلى تلك الثقة، فلا يعمل خاصية التحليل، وحب الاستطلاع، والبحث والإحكام.
هنا يبدأ احتلال العقول بتلك الثقة، فكما يتدرج الطفل في التساؤلات، تتدرج الثقة من علو إلى علو، إلى أن يصطدم الطفل ببعض الإجابات المانعة، والقاتلة لروح وغريزة الاستطلاع والبحث. عندما يتدرج بتساؤلاته من خلق الأرض والسماوات إلى الإله. وهنا يتم وأد الاستطلاع مبكراً خوفاً عن الطفل من الانحراف الفكري.
ويثق الطفل في أبويه ويدين بدينهم يهودياً كان أم مسيحياً أم إسلامياً أو بوذياً أم أي ديانة أخرى. بدافع الثقة في معطيات ذويه. وعند هذا الحد يتم الاحتلال الكامل للعقل!!
إعمال الفكر في الكون وفي خالق الكون من الغرائز الطبيعية التي تتولد فينا، فهناك من تستمر معه هذه الغريزة - وهم قلة- ويبدأ في تحليل كل ما يأتيه من معطيات ومعتقدات أهله وذويه ويحاول أن يصل إلى الحقيقة بعقله. وأكثرنا يرتكن إلى ثقته فيمضي كما أراد له ذويه.
من المعلوم في الديانات السماوية الثلاثة أن إبراهيم عليه السلام هو أول من حطم ثقته في ذويه، وبدأ بتحليل معطياتهم ومعتقداتهم، فلو استمر في ثقته دون تحليل لما توصل إلى أن ما يعبدون من دون الله باطل بتحليل عقله. فبدأ معهم كما يبدأ أي طفل أو صبي أو شاب في التساؤل وأخذ الإجابة وتحليلها بعقله والبحث هل هي صحيحة فيتبعها أم خاطئة فيكمل البحث عن الصواب. فتساءل (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) وكانت الإجابة (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) وبدأ بتحليل تلك الإجابة، وهذا التحليل هو ما أسماه الحق سبحانه وتعالى الرشد فقال في آية سابقة على تلك الآيات (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ)
هناك الكثير من الناس يتبعون سنة إبراهيم في التدبر والتفكر والتحليل للوصول إلى الدين الحق. ولكن الأكثرية ارتكنوا بالثقة في ذويهم إلى ما أقروه لهم.
ولعل مبدأ الشك يؤدي إلى اليقين هو المبدأ الذي استنه إبراهيم عليه السلام وليس ديكارت. فقد تتبع الكواكب والنجوم ونظر في السماوات والأرض ليتعرف إلى خالق هذا الكون، وعندما أعيته الحيلة وقصر عنه عقله المحدود، أقر بأن لهذا الكون خالق عظيم الشأن لا يستطيع أن يصل إليه فأقر بإشراكه بما أدرك بتحليله أنها ليست بآلهة وكيف لإله أن يخلق وينحت من الصخر ثم يعبد. ونادى خالقه (قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ). بهذا توصل إبراهيم عليه السلام إلى خالقه وبارئه في حدود إمكاناته العقلية.
من منا كان إبراهيمياً في توصله إلى الحق؟
من منا كان إبراهيمياً في وضع الثقة في محلها من حيث الشك ثم التيقن؟
من منا كان إبراهيمياً في تحرير عقله من احتلال الثقة؟
اللهم اجعلنا حنفاء على ملة أبينا إبراهيم في الوصول إليك.
التعليقات