أمثالنا الشعبية موروث ثقافي يحمل في طياته الكثير من الخبرات الخصبة والحكم السديدة التي تعتبر خلاصة تجارب حياتية قديمة فيقال ان لكل مثل حكاية حقيقية وتجربة إنسانية تجسد القيمة الواعية والهادفة لهذا المثل والتي بالرغم من قدمها تنطبق وبشدة على مجتمعنا وحياتنا المعاصرة فتعتبر للكثيرين منا منهاجاً نستنير به ودليلاً نسترشد به ولأن معظم هذه الأمثال جمل قصيرة ذات طابع ساخر قد تحمل سجعاً وقد لا تحمل لذا فهي بمثابة مادة للفكاهة ووسيلة للتنكيت في مختلف المواقف.
أعترف بتصنيف خفيٍ يحمله رأسي منذ فترة طويلة فحينما أتعرف على أحد الأشخاص الجدد وبعد الدخول معه في حوار ليس بالضرورة حواراً طويلاً أسمع عقلي يردد بصوت خفي لا يسمعه أحد غيرى (مليان) وأحياناً للأسف أسمع كلمة (فاضي). نعم الناس عندي نوعان (مليان) أو (فاضي). ( المليان) هو ذلك الشخص الواعي المطلع. متحمل المسئولية، صاحب فكر، صاحب شخصية مميزة، نقولها بالعامية (دماغه كبيرة) ولا يشترط أن يكون على مستوى ثقافي أو تعليمي عال أو مميز فهناك شخصيات( مليانة )بالرغم من أنها أمية القراءة والكتابة لكنها تسمع وتعي، أصقلتها تجارب حياتها بمعارف وخبرات جعلتها ممتلئة. المليان يحمل بداخله جزء ولو صغير من كل شيء . تحدثه عن السياسة، الاقتصاد، الحب عن الدين تجده يمتلك مخزوناً ولو ضئيلاً ليبادلك به الحديث. أما الفاضي لا أجد له وصفاً سوى تشبيهه بثمرة حلوة الشكل الخارجي لكنها معطوبة من الداخل، مخوخة.
(المليان يكب على الفاضي) هو أحد الأمثال الشعبية الذي يرتبط بشكل كبير بذلك التصنيف. فبالرغم من أن المقصود به مادي بحت حيث يعطى الغنى كل من هو محتاج من المحيطين به مما أعطاه الله ليصبح كلاهما مستكفياً فإنني أرى مضموناً أعم وأشمل لهذا المثل حيث إن المليان يؤثر بالإيجاب على الفاضي مادياً ومعنوياً فيعطيه مما يحمله مما يجعله مملوءا هو الاخر. ولكن هل هذا ما يحدث حولنا الان؟ للأسف أصبح المثل معكوساً وأصبح الفاضي يكب ع المليان. أصبح المظهر فقط هو المؤثر وهو عنصر الجذب ومحور الاهتمام دون الجوهر. وأصبح الفاضي ذو الشكل البراق هو المثال الذي يحتذى به ويقلده الناس. أصبح الشكل العام هو ما يميز شخص عن الأخر وليس عقله أو ثقافته أو طباعه الشخصية لا سمح الله فكلما رسمت لنفسك (ستايل) وتفننت في صنع(البريستيچ) أقبل عليك الناس وأحبوك. التفنن في رسم المظهر الخارجي أصبح أهم من صقل العقل والروح. كلما اهتممت بالخارج وأهملت الداخل ازددت مغناطيسية. أنا لا أعترض أبدا على الاهتمام بالمظهر ولكن أعترض على كونه غير مصحوب بالاهتمام بالمضمون. ادعم الداخل كما تدعم الخارج. أرفض أن التمييز يبنى على الشكل والمظاهر الفارغة الخداعة. لا ضرر أن يكون اهتمامنا بمظهرنا الخارجي جزءًا أساسياً من حياتنا ولكنى أرفض أن يكون هو الحياة كل الحياة ولا شيء غيره.
لاحظت أن تجار الفاكهة يقومون بعمليه فرز طوال اليوم لا يملون منها ولا يكلون فهو يبعد الفاسد المعطوب عن الثمار الجيدة حتى لا تصيبها العدوى فتصبح معطوبة هي الأخرى. يعزل الجيد عن الفاسد، إنه بهذا يتجنب الخسارة، يسعى للتجارة الرابحة. فكيف لنا ألا نتجنب خسارة أنفسنا وخسارة جيل يحاكينا ويرث منا؟! ألا نتحضن بالمملوئين! كيف نسعى للنقصان ؟! كيف لنا ألا نتجنب العطب …؟!!!
التعليقات