بجانب الجشع والنصب وبيع الوهم للناس، فإن لعصر الاستهلاك طبائع أخرى، من أبرزها خلق احتياجات جديدة لدى الناس وجرهم إلى النهم فى شراء ما يحتاجونه وما لا يحتاجونه بحيث يتجاوز هدف الاستهلاك اشباع حاجات او رغبات حقيقية ليتحول إلى الاستهلاك من اجل الاستهلاك على غرار الفن للفن حيث يصبح العالم كله سوقا كبيرا، كل شىء فيه قابل للبيع والشراء، وتتحول الشعوب الى مستهلكين أو ارقام فى قوائم المبيعات، وتستباح الخصوصيات وكل شيء يخضع للترويج وسطوة الإعلانات حتى أعمال الخير لتمتد مساحة الأسواق من حدود الدنيا الى آفاق الآخرة، لعلنا نذكر الإعلان الشهير عن احد أنواع الدجاج الذى قال فيه أحد الدعاة الجدد (لما تأكل فرخة.... وتروح تصلى التراويح بعدها ارتقاءك لربنا فى قيام الليل وصلاة التراويح أحلى)!!
ومن بين سمات عصر الاستهلاك العمل على نشر الضحالة والتسطيح الفكرى بين الناس الذين هم فى نظر أصحاب الشركات، مجرد زبائن يجب ألا يتمتعوا بالوعى والثقافة، حتى لا يمكنهم التمييز بين الزيف والحقيقة او بيع الوهم فى مجال التسوق، ومن ثم لا يتمردون على آلة الاستهلاك الرهيبة، من هنا يصبح الانفاق على برامج التسلية الرخيصة أو تلك التى تستضيف اشخاصا ليسوا على قدر من الثقافة والفكر امرا منطقيا .
ومن طبائع عصر الاستهلاك تضييع وقت الشباب فى سلاسل ألعاب الكترونية تستمر مئات الحلقات مع حوافز شكلية لتحقيق انتصارات وهمية تتمثل فى الانتقال من مرحلة إلى أخرى داخل اللعبة، وللأسف لا تقتصر مخاطر الألعاب الإلكترونية، على إهدار وقت الأطفال والشباب، وانما تستغل للترويج لأفكار مسمومة ومتطرفة، وتتيح للمستخدمين الصغار التعرف على غرباء، وإنشاء صداقات عبر شبكات مخفية يستغلونها فى جذبهم إلى أفعال مشينة تخالف القيم والأخلاق والتقاليد.
ومن طبائع الاستهلاك استباحة الخصوصيات من جانب شركات التكنولوجيا العملاقة التى تستفيد من بياناتنا وتبيعها لشركات أخرى من أجل التعرف على ما نحتاجه او نفكر فيه لكى تستهدفنا بإعلانات تلبى تلك الاحتياجات .وهكذا نصبح نحن تحت مراقبة مستمرة من هذه الشركات مما دعا منظمة العفو الدولية إلى التحذير من ذلك ، فى بيان أصدرته يوم 21 نوفمبر 2019، ذكرت فيه أن المراقبة التى تقوم بها شركتا الفيسبوك وجوجل فى كل مكان لمليارات الأشخاص إنما تشكل تهديداً ممنهجاً لحقوق الإنسان. ومن هذه الطبائع الربط الزائف بين السعادة والاستهلاك، فعلى الرغم من الجدل الواسع الذى شغل المفكرين والفلاسفة قرونا حول مفهوم السعادة، وما اذا كان مصدرها داخليا ينبع من مشاعر الإنسان الذاتية، او خارجيا من عوامل بيئية وظروف مجتمعية، إلا ان الآلة الرأسمالية اختزلت كل ذلك فى سلوك واحد هو الاستهلاك، انطلاقا من فرضية مصطنعة تقول إن المستهلك السعيد يشترى أكثر ويتم تكريس هذه الفرضية الزائفة عبر الإعلانات التى نجد فيها صورا وتعبيرات عن البهجة والانبساط عند شراء السلع المعلن عنها بدءا من مسحوق الغسيل والمشروبات الغازية انتهاء بالشقق والفلل. للأسف تزامن ذلك مع شيوع ثقافة استهلاكية طبقية جعلت قيمة الفرد مرتبطة بما يستهلك، وجعلت من هوس الاقتناء معادلا أساسيا فى تقدير سلم الارتقاء الاجتماعي. ولطبائع الاستهلاك مدخل نفسى حيث تستغل بعض الشركات حاجة الناس للتفرد، لتحصر هذا التميز عبر اقتناء (موديلات) مختلفة من الأجهزة والكماليات حتى يصبح الجهاز الذى تم إنتاجه قبل بضع سنوات ومازال مؤدياً للحاجات التى صنع من أجلها، تعبيرا عن حالة تخلف عن مواكبة الجديد، ودليلا عن النزول درجات فى سلم الاعتراف الاجتماعي، الذى تتراجع معاييره الإنسانية والابداعية والاخلاقية ليحل محلها معيار الاقتناء.
العجيب ان هذا المفهوم الزائف للسعادة ثبت فشله فى الغرب نفسه الذى يصدر لنا هذا المفهوم ،حيث يتمتع معظم الناس هناك بقدرة شرائية عالية، ومع ذلك فإن تلك المجتمعات تعانى أزمات نفسية لدرجة ان أعلى نسب الانتحار هناك، ومازال خبراء علم الاجتماع والصحة النفسية يبحثون عن تلك الحالة من الاشراقة النفسية المفقودة فى المجتمعات الغربية، على الرغم من انها تتوافر لديهم كل المقومات المادية والقدرة على الاقتناء التى تجلب سعادة حسبما يزعم فلاسفة البزنيس!
(وللحديث بقية)
التعليقات