* المشاهد وجد نفسه مُطالباً بالنظر في قضايا عجز أساتذة القانون وعلماء النفس ونوابغ الطب ورجال الدين عن حسمها
* صناع الفيلم أرادوا إنجاز فيلم قادر على الإنضمام إلى قائمة الأفلام التي غيرت القوانين
* المخرج محمد أمين يفقد ظله بعيداً عن «سينما المؤلف» .. والدليل : «200 جنيه» !
على نهج أفلامه الشهيرة: «الفرح» (2009)، «كباريه» (2008)، «ساعة ونصف» (2012) و«الليلة الكبيرة» (2015)، التي تدور أحداثها في يوم واحد، أو ليلة بعينها، وربما ساعة ونصف، على أكثر تقدير، كتب أحمد عبد الله سيناريو فيلم «المحكمة»، الذي أخرجه محمد أمين، وبدا من خلاله أنهما استهدفا، بالإضافة إلى فضح عورات المجتمع، كشف الثغرات القانونية، التي وقع فيها المُشرع المصري !
من هنا لم يكن صعباً، على الإطلاق، أن يتبين المتابع للقضايا الواقعية الكثيرة، التي تناولها فيلم «المحكمة» (92 دقيقة)، وتستشعر أن وقائعها منقولة، بحذافيرها، من صفحات «الحوادث»، أن ثمة رغبة محمومة، من جانب صناع الفيلم، في وضع هذه القضايا في دائرة الضوء، والسعي، وهو الطموح الأكبر، إلى إنجاز فيلم فاعل وقادر على الإنضمام إلى قائمة الأفلام، التي غيرت القوانين؛ مثل : «جعلوني مجرماً» (1954)؛ الذي نجح في إلغاء السابقة الأولى من صحيفة الحالة الجنائية، «باب الحديد» (1958)؛ الذي تبنى فكرة إقامة نقابة عامة للشيالين، «كلمة شرف» (1973)؛ الذي نجح في تغيير القوانين غير الآدمية لمصلحة السجون، بالإضافة إلى فيلم «أريد حلاً»(1975)، الذي كان سبباً في تغيير قانون الأحوال الشخصية.
العبء الثقيل
هدف مشروع، بكل تأكيد، لكن زخم القضايا، التي تعرض لها الفيلم، الذي أنتجه أحمد السبكي، أرهق كاهل المشاهد، الذي اكتشف أنه مُطالب بالنظر في قضايا اجتماعية وطبية ودينية وقانونية عجز أساتذة القانون، وعلماء النفس والاجتماع، ورجال الدين، ونوابغ الطب، أنفسهم عن حسمها؛ مثل : «الموت الرحيم»؛ بمعنى إنهاء حياة الإنسان عن عمد (حقن المريض بعقار مميت، يُخفف من ألامه ومعاناته ومرضه الميئوس من شفائه)؛ كما رأينا في حالة الطبيبة المطلقة «نبيلة» (غادة عادل)، التي تحقن أمها (حنان سليمان)، المصابة بورم سرطاني، ولا يرجى شفائها، بينما يرتفع صوت الدين ممثلاً في «شيخ الجامع» (صبري عبد المنعم)، معترضاً : «العذاب رحمة من ربنا الذي من حقه وحده اختيار توقيت استعادة وديعته»، ويبدو أن كاتب الفيلم تبنى وجهة النظر هذه؛ بدليل أن المتهم الوحيد، الذي أحالت «المحكمة» أوراقه إلى المفتي هي «نبيلة»، بينما اكتفت «المحكمة» بإيداع «وليد سيد احمد» الشهير ب وليد قطة (أحمد داش)، سائق الميكروباص، الذي اغتصب وقتل «منى» (مايان السيد)، طالبة الطب المتفوقة، مؤسسة الأحداث، بحجة أن القانون يمنع إقامة حد القتل علي الطفل القاتل، الذي لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، واختلف الفقهاء علي السن، لكنهم أجمعوا أن من يبلغ السابعة عشرة، حتى لو اغتصب وقتل، هو مجرد طفل، بينما راوغ المحامي، بخسة وصفاقة، وبنى دفاعه أنها «مشاجرة أفضت إلي قتل» !
.. وتتوالى الصدمات، التي جعلت الشاشة الكبيرة أقرب إلى صفحة الحوادث؛ فاضطزاب الهوية الجنسية يحتل مكانه في الفيلم؛ عبر الطالبة الجامعية «عالية» (جميلة عوض)، التي صدر قرار بفصلها، لأنها «خلقت بمشاعر أنثى في جسد رجل»، ووجدت أن حل أزمتها في عملية تُكمل تحولها الجنسي، لكن المجتمع، وأسرتها، والجامعة، نبذوها، وتبرأوا منها، وكادوا يدفعونها إلى الانتحار. وهي نفسها قضية «سالي»، طالبة جامعة الأزهر، التي تحولت، عام 1988، من «سيد» إلى «سالي»، وفصلتها الجامعة، بعد إحالتها إلى مجلس تأديب، لكنها حصلت على حكم من القضاء الإداري بحقها في العودة، ورفضت الجامعة تنفيذ حكم القضاء، فاتجهت إلى ممارسة الرقص الشرقي، في عدد من الملاهي الليلية، قبل أن تعتزل، وهو الجزء الذي لم يقم «عبد الله» باستنساخه، ربما لأنه «حرام»، بينما هو يكتب حسب الشريعة، وحسبما تقتضي الأخلاق والأعراف؛ بدليل انحيازه، رغم التظاهر بعكس ذلك، إلى النص، الذي يعطي الحق لابن الخال (حمادة بركات) في مزاحمة بنات عمته (سلوى عثمان) في الإرث؛ بحجة أنهن بنات، وأنه «ذكر العيلة»، الذي سيصل الرحم (!). وعندما تناول قضية شائكة، وغاية في الحساسية، هي قضية الزنا والنسب والخيانة الزوجية، برأ الزوجة الخائنة «سمية» (يسرا اللوزي)، بحجة أن زوجها «محمود» (محمد علي رزق) أجرى التحاليل، التي تؤكد خيانتها، وعدم نسب ابنته، في معمل خاص وليس معملاً شرعياً (!) وفي تناوله لقضية فتيات «البورنو كليب» أو «التيك توك»؛ ممثلة في المطربة المتهمة «سوزي أمين»( نجلاء بدر)، يصفه بأنه «فن شد الانتباه، ولقت النظر»، وتتحول المطربة، على يديه، إلى خطيب مفوه، ومحام مُحنك، وتترافع عن نفسها، على غرار المرافعة الشهيرة لأحمد زكي في فيلم «ضد الحكومة»، فتنفي عن نفسها تهمة التهتك، وتُلقي باللائمة على المجتمع، الذي ترك قضايا خطيرة، بعاني منها العالم الإنساني؛ مثل : الفقر، الجهل، المرض، البطالة، الفساد والتطرف، لينشغل بقضيتها، ويحملها مسئولية انهيار المجتمع (لاحظ أنها منهمة بإثارة الغرائز وليست مثقفة لتتحدث بهذه الخلفية المعلوماتية الدسمة) !
دفاع متهافت .. ومخرج فقد ظله
بعيداً عن الدفاع الساذج، والمتهافت، الذي غلب على القضايا المطروحة في فيلم «المحكمة»، بدت بعض «الحواديت» محشورة (الشاب المطلوب منه كفالة قدرها 5 ألاف جنيه وعند الاتصال اكتشفوا أنه مات)، أو ضعيفة البناء؛ مثل قضية المواطن العربي «زياد فراس منذر» (فتحي عبدالوهاب)، الذي اتهمته الفتاة الشابة «سهام» (ليلى زاهر) بالتحرش، وفي «المحكمة» كشف عن مأساته؛ فقد لجأ إلى مصر هرباً من القصف الذي دمر وطنه، وعندما بعث تذكرة الطائرة لابنته وزوجته ماتا في القصف، ودفنا في مقبرة جماعية، وبعد ما كاد «القاضي» يُجهش بالبكاء، أصدر حكم البراءة (!) بينما بدت قضايا أخرى، وكأن الزمان أكل عليها وشرب؛ مثل قضية الثأر (الأم الصعيدية - عارفة عبد الرسول – التي مات ابنها الطبيب إثر مُشادة بينه وصديق عمره، وزميله في العمل، «محرز» (محمد مهران)، فما كان منها سوى أن حرضت ابنها الثاني (أحمد خالد صالح) على الثأر لأخيه)، وفي جرأة يُحسد عليها الفيلم وصف الثأر، ولو على سبيل التهكم، بأنه رجولة، واتهم الصحافة بأنها «صفراء» .
للمرة الثانية، وفي فترة وجيزة للغاية شاهدنا فيها تجربته السابقة مع الكاتب أحمد عبد الله، في فيلم «200 جنيه»، يُبرهن لنا المخرج محمد أمين بأنه يفقد الكثير من ألقه، ورونقه، وتوهجه، وإبداعه، في حال لم يعتمد «سينما المؤلف»، التي يتصدى خلالها لكتابة أفلامه بنفسه (راجع «فبراير الأسود» ، «بنتين من مصر»، «ليلة سقوط بغداد»، «فيلم ثقافي»)، وإذا كانت الظروف الاقتصادية القاسية، وتعثر عرض فيلمه «التاريخ السري لكوثر»، الذي انتهى بالفعل من تصويره وإعداده للعرض، أصابه باليأس والإحباط، واضطره إلى الخروج للعمل في أفلام كتبها آخرون، ولم يحالفه التوفيق فيها بدرجة ملحوظة؛ فإن عليه مراجعة نفسه، قبل أن يُصبح مجرد رقم في السوق، وواحداً من المخرجين الذين يوفر لهم «السبكي» فرصة للرزق، ومن ثم يفقد الكثير من لياقته الإبداعية بالدرجة التي جعلته يغض النظر عن عدم تعاطف الجمهور مع «حسين» (صلاح عبد الله) وهو يُجسد دور والد المغتصبة القتيلة «منى»، ولا يعترض على جملته الساذجة للمُغتصب : «طيب اغتصبها وسيبها» (!) ولا يشعر بغلظة مشاهد المحامي «عصام» (كريم عفيفي)، وقد جاءت عائلته المكونة من إيمان السيد وعلاء زينهم، لتشهد مرافعته الأولى . أما تسامح وتصالح عائلة «عالية» معها، فجأة، لمجرد أن قالت في المحكمة : « كنت أتمنى أن تحبني أسرتي» فتندفع أمها إلى عناقها، وهي تهتف : «يا حبيبتي يا بنتي»، فهو العبث الدرامي بعينه !
التعليقات