من زعم أنه فيلم أطفال عن «الأشباح والعفاريت» ظلمه كثيراً .. وفي حاجة لمشاهدته من جديد
هل يُجسد ماجد الكدواني شخصية الإذاعي الشهير أحمد سعيد أم الفنان الكبير صلاح جاهين؟
حالت ظروف قهرية دون تمكني من مشاهدة فيلم «برا المنهج»، للمخرج عمرو سلامة، عند عرضه في حفل ختام الدورة الافتتاحية لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي (6 – 15 ديسمبر 2021)، ومن ثم انتهزت فرصة طرحه في الصالات التجارية المصرية، لأعوض ما فاتني. والحق يُقال إنني فوجئت بالأطروحة الرائعة للفيلم، على الصعيدين الفني والفكري، وما وصل إليه المخرج عمرو سلامة من تدفق إنساني لم يغب عنه الحس المُرهف، وإن اختلفت معه في ما ذهب إليه من موقف سياسي بدا متحاملاً بدرجة ما.
توقفت طويلاً، وتعجبت كثيراً، لمن وصف فيلم «برا المنهج» (127 دقيقة)، بالسذاجة، والسطحية، وأنه «فيلم أطفال» عن «الأشباح والعفاريت»؛ فمنذ المشاهد الأولى يجذبك الفيلم بما طرحه من تناقض أخاذ، بين الصورة والتعليق؛ فعلى عكس التعليق الذي يقول إن «نور» (الطفل عمر شريف) صبي مثالي، وتلميذ نجيب يهتم بمنظره، وهندامه وراحته، ونظافته الشخصية، وأنه طفل شجاع، وبذرة لنبتة مواطن واعد، مثقف، لا يخشى شيئاً. والأهم أنه طفل صادق لا يكذب أبداً، تقدمه لنا الصورة السينمائية بشكل مُغاير تماماً؛ فهو متردد، مُتهم، بواسطة معلمه، وأقرانه في الفصل الدراسي، بأن رائحته عفنة. والأهم أنه رعديد يكاد يموت من الرعب والفزع، في اللحظة التي يمر بها أمام البيت المهجور، ظناً منه أنه «بيت يسكنه الأشباح» !
في هذا النهج، الذي اعتمد على التناقض، ارتكز البناء الدرامي للسيناريو والحوار، الذي كتبه خالد دياب وعمرو سلامة، عن قصة كتبها المخرج بنفسه، وتكاد تستشعر أنه استلهمها من مراحل طفولته، وذكرياته الشخصية، فيما اكتسبت ثراءً كبيراً بقناعاته السياسية، وسنوات تكوينه، لكن الفيلم تجاوز، كثيراً، كونه واحداً من «أفلام السيرة الذاتية» ليُصبح فرصة للتنديد بمؤسستي التعليم، والأسرة، والوصاية، من ناحية، وقراءة أخرى للتاريخ، ومراجعة لوقائع، وشخصيات، نظرنا إليها دوماً، بوصفها «ثوابت»، من ناحية أخرى !
برا المنهج .. وداخله !
نجح الفيلم في تناول الكثير من القضايا الجوهرية، والجادة، عبر معالجة اكتست بالبساطة، وخفة الظل، والطرافة، لعبت فيها السخرية دوراً كبيراً، لتكريس التناقض، بين ما هو «جوه المنهج»، من مألوف ومعتاد، وما هو «برا المنهج»، من «مسكوت عنه»، وغير مُتعارف عليه، ومنبوذ؛ بداية من تكريس الصورة التقليدية المألوفة «جوه المنهج» للتلميذ المصنوع، المثالي، النجيب، المُقبل على المستقبل، كالوردة التي تتفتح للحياة، الذي يسير بخطى ثابتة نحو وجهته، مُسلحاً بكتابه الدراسي، والعلم، والبصيرة، كأساس لمواجهة العالم، وصورته «برا المنهج»؛ كطفل طبيعي : شقي، جبان، لا مانع أن يلجأ إلى تزوير التوقيع على شهادته المدرسية، والكذب، إذا لزم الأمر، ليُضفي هالة من البريق والإعجاب على شخصينه، وهو ما فعله، بالضبط، الطفل «نور» (لاحظ مغزى الإسم)، الذي يعيش في بلدة ريفية صغيرة، مع خالته «فوزية»، (دنيا ماهر)، وزوجها المُدمن «حنفي» (أحمد خالد صالح)، بعد ما يُشيع أنه يتيم، ويُعاني كثيراً في محيط مدرسته، من تندر وسخرية الجميع؛ بسبب نظره الضعيف، ورائحة ملابسه، وخوفه، كأقرانه، من بيت الأشباح الواقع في طريق المدرسة، وعندما تواتيه الفرصة يدخل البيت المهجور، ليُبرهن أنه شجاع، ويسعى لاكتساب احترام الجميع، ومن ثم تُصبح الفرصة مهيأة لقراءة الحاضر، والتاريخ، ومراجعة ما نُطلق عليه، بلغة المنطق، «البديهيات» و«المُسلمات»، وبلغة الخطاب السياسي : «الثوابت»، «العادات» و«التقاليد»، وبقية القيم التي استقرت في عقول الجماهير، وضمير الأمم؛ فالشبح، الذي يسكن البيت المهجور، ليس سوى إعلامي شهير يُدعى «أحمد وحيد» (ماجد الكدواني)، هجر أهله، والمجتمع؛ بعد ما صار واحداً من جبناء التاريخ لا شجعانه؛ كونه بنى مجده الإعلامي على الكذب، وتزييف الحقائق، وتحويل الهزائم إلى انتصارات، خدمة للنظام الحاكم، ولما أدرك حقيقة الجرم الذي ارتكبه، كره نفسه، وكرهه الناس، واختار الاعتزال !
شخصية تُحتار ما إذا كان مقصوداً بها الإذاعي الشهير أحمد سعيد أو الفنان الكبير صلاح جاهين، لكنك ستتوقف طويلاً عند ما ذهب إليه الفيلم من تنديد بمجتمع استمرأ العيش في الوهم والأكاذيب، ورفض تصديق الحقيقة، والأهم، في هذا السياق، أن الفيلم وجدها فرصة للبحث في المعنى الحقيقي للأبوة؛ الأب «الشبح» أو بالأحرى «الحاضر الغائب»،مهما كانت أسبابه، كما وجدها – الفيلم - فرصة لقراءة التاريخ من جديد، ومراجعة الكثير من «البديهيات»، التي صارت «مُسلمات»، والشخصيات التي ننظر إليها بوصفها «أصنام» و«ثوابت»، لا ينبغي المساس بها أو الاقتراب منها، وكأنها صارت أشباحاً؛ فالإعلامي يُكفر عن جريرته في حق المجتمع، والأجيال التالية، بأن يُعلم «نور» كيف يقرأ الوقائع، من «برا المنهج»، ويتجاهل ما درسه من «تلقين» تجرعناه «جوه المنهج»؛ بداية بحدوتة الدين الجديد، الذي دعا إليه «إخناتون»، ولم نتعرف على حقيقته، ودوافعه، مروراً بالزيف في حكاية البطل الأسطوري «صلاح الدين الأيوبي»، الذي لم يكن وسيماً ولا مفتول العضلات، بل مُصاباً بمرض جلدي، ناهيك عن أكذوبته المسماة «فرجينيا»، وانتهاء بحدوتة الشيخ عمر مكرم، الذي كان قائداً عظيماً ومحباً لبلده، لكنه بدد فرصة ذهبية للاستقلال بمصر، وليذهب حكمها إلى مصري،؛ عندما أهدر بطولته، ومقاومة شعبه، للحملة الفرنسية، ونابليون، ومنحها على طبق من فضة لجندي ألباني (محمد علي) لم يكتف بحكم مصر وإنما أبعده شخصياً ونفاه !
دروس تخطت حد التسلية
على هذا النسق جاءت دروس، وتعاليم، فيلم «برا المنهج»، الذي ثمن دور العلم وحده، وحث على الشجاعة، والجسارة، وقول الحق، والثقة بالنفس، وضرورة أن تُصدق بطولاتك، ولا تدع أحداً يسرقها، وينسبها لنفسه، في غفلة منك، كسبيل أوحد لدخول التاريخ، وكيف يتأتى لك أن تنضم إلى «شجعان التاريخ». وفضلاً عن هذه الدروس، التي غلفها الفيلم بإطار من التسلية، والجاذبية، والمتعة، قدم التحية، في أكثر من مناسبة، للنجم الكبير نور الشريف، لعل أبرزها إطلاق اسم «نور» على الشخصية الرئيسة، وأكد على أهمية التشبث بالحقيقة، مهما كلفنا الأمر، ومثلما كان الإسقاط بليغاً في كلمة ناظر المدرسة (محمد عبد العظيم)، وهو يُخاطب التلاميد، في تناقض صارخ بين الواقع والحقيقة، قائلاً : «كم بغت دولة علي وجارت»، اتسمت موسيقى راجح داوود بالكثير من الشجن والتدفق والمزج بين المثالية، والسلبية، والتناقض بين السخرية والمشاعر الوطنية، وحالف التوفيق منى التونسي في تصميم ملابس «الإعلامي المهزوم»، بحيث بدا وكأنه «أراجوز»، «بلياتشو» أو «جوكر مسخ» ، في أيدي «النظام»، وهو التوفيق نفسه الذي حالف المخرج في اختيار رباعية صلاح جاهين، التي تقول : «ولدي نصحتك لما صوتي اتنبح.. ما تخافش من جني ولا من شبح ..وان هب فيك عفريت قتيل اساله .. ما دافعش ليه عن نفسه يوم ما اندبح»، وتوظيف طاقمه التمثيلي والتقني، كلٌ في مكانه بالضبط؛ مثلما فعل مع الطفل الواعد عمر شريف، بتلقائيته، وثقته، وقدرته على الإقناع، والقدير ماجد الكدواني، القادر على إقناعك في كل الأحوال، ونفس الأمر بالنسبة لدنيا ماهر وروبي، رغم المساحة الصغيرة لدوريهما، ويبقى شر أحمد خالد صالح مسنعصياً على الفهم، لعدم وجود ما يبرره، تماماً مثل المؤثرات البصرية الضعيفة والبدائية للغاية ( تامر مرتضي)، التي كانت سبباً في تراجع مصداقية مشاهد «الجرافيكس» (حرب صلاح الدين والصليبيين وأيضاً معركة محمد علي وعمر مكرم ونابليون)، بعكس البصمة الرائعة لمدير التصوير أحمد بشاري، ومونتاح أحمد يسري وديكور علي حسام . لكن يبقى «برا المنهج»، في النهاية، «جوه المنهج» .. وفي صميمه !
التعليقات