مؤلف الرواية لن يتبرأ من الفيلم أو يُعلن أن مسئوليته تقف عند حدود الرواية فقط لأن «صنع الله إبراهيم» شريك أساسي وفاعل حقيقي في التجربة.
الاستغناء عن تفاصيل في الأحداث والتضحية بشخصيات في الرواية أنقذ الفيلم من ترهل الايقاع وإن لم يفقده طابعه السياسي
المقاومة بأكثر من صورة
في جدة كان السؤال الذي يتردد على ألسنة أعضاء الوفد المصري : «ما الفيلم المصري المُشارك قي المسابقة الدولية للأفلام الطويلة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي؟»، وعندما كانت تأتي الإجابة : «شرف» للمخرج سمير نصر، كانت الدهشة ترتسم على كل الوجوه؛ لأن أحداً، من دون استثناء، لم يكن يعلم أن هناك فيلماً، صُور على الأراضي المصرية، يحمل عنوان «شرف»، وأن هناك مخرجاً اسمه سمير نصر، ومن ثم انتظر المصريون، قبل أعضاء بقية الوفود، بلهفة عارمة، وشوق بالغ، اللحظة التي يُعرض فيها الفيلم، عساه يفك اللغز، ويحل الطلسم !
شرف
لم يكن هذا نوعاً من الجهل، أو عدم الإلمام بما يجري على الساحة السينمائية في مصر، من قبل أعضاء الوفد المصري، بعد ما تبين أن الفيلم صور بأكمله في تونس، بمشاركة إنتاجية من Zone Art Films، التي دعمت المنتجة الرئيسة سيلفانا سانتا ماريا، ولما واجه فريق الإنتاج صعوبة حقيقية في الحصول على تصريح رسمي للتصوير في سجنٍ حقيقي، تم الاتفاق على بناء وتصميم سجن خاص في ستوديو قرطاج السينمائي، وسرعان ما تقرر تصوير الفيلم بالكامل في الأستديو، ومن ثم اكتمل تصويره تماماً في 21 يوم !
رفاق السجن والعزلة
المفارقة المثيرة
كانت ثمة ضرورة قصوى في الاستغناء عن الكثير من التفاصيل، التي امتلأت بها رواية «شرف»، للكاتب الكبير صنع الله إبراهيم، التي صدرت في العدد 579 من روايات الهلال، في مارس 1997؛ إذ تُعد رواية ملحمية، تذخر بالأحداث، التي ترصد، بدقة ساحرة، مصر السبعينيات والثمانينيات، وغنية بالشخصيات التي تصلح كل شخصية منها لصنع فيلم بأكمله، لكن التضحية ببعض الشخصيات (زوجة المأمور اللعوب، المتهمات في القفص وزوجة المسئول الكبير )، واختزال الأحداث، فضلاً عن الاستغناء عن المشاهد الخارجية، والتركيز على الخط الدرامي للبطل «شرف»، أنقذ الفيلم من تفاصيل كانت ستُرهق إيقاعه، وإن بدا جلياً أن مشاهد شوارع القاهرة في الرواية، كانت بمثابة حجر أساس في بنيانها، لكن في كل الأحوال لم يفقد الفيلم (95 دقيقة) الطابع السياسي للرواية (543 صفحة)؛ مثل : فضح التبعية السياسية العربية للهيمنة الأمريكية، وتضخم نفوذ الشركات عابرة القارات، وعلى رأسها شركات الأدوية الكبرى، وأشكال التخريب المُنظم، الذي تُمارسه في دول العالم الثالث، بالإضافة إلى الرسالة الرئيسة، التي تتمثل في مناهضة القهر والعنف والديكتاتورية وشتى صنوف الكبت وتقييد الحريات، وهي الأفكار التي صاغها «صنع الله إبراهيم» في روايته، وحالف التوفيق المخرج الشاب سمير نصر، في اختياره ليشاركه في كتابة سيناريو الفيلم، ومن ثم لن نُفاجأ بمؤلف رواية «شرف» يتبرأ من الفيلم، ويُعلن أن مسئوليته تقف عند حدود الرواية فقط؛ لأن «صنع الله» في هذه التجربة فاعل حقيقي، ومُشارك رئيس، في عملية الانتقاء، وممارسة الرقابة الذاتية، التي أدت إلى حذف كل ماهو جريء واباحي وسياسي في الرواية، وليس مجرد متفرج، أو «أديب قبض الثمن» وانتهت مهمته، كما جرت العادة !
المخرج سمير نصر
«شرف» أمة تتعرض للتحرش
أشرف عبد العزيز سليمان أو «شرف»، كما كان يحلو لأمه أن تناديه، شاب ولد عام 1974، يعيش في حي فقير، مع أسرة يقتلها البؤس، وتراوده طموحات لا حدود لها، يُمضي أغلب وقته خارج المنزل، ولديه معرفة جيدة باللغة الإنجليزية، وولع مجنون، كأغلب أبناء جيله، بأغان، وموضات أزياء، تلك الفترة، تقوده المصادفة للتعرف إلى «خواجة»، يدعوه لمرافقته إلى السينما، ثم شقته في حي الزمالك، وهناك تنشب بينهما معركة، بعد ما يرفض الشاب أن ينتهك الأجنبي «شرفه»، تنتهي بمقتل «الخواجة» !
الأم المكلومة
تفاصيل يتجاهلها سيناريو الفيلم، الذي يذهب مباشرة، إلى اللحظة التي يدخل فيها «شرف» (الممثل الفلسطيني أحمد المنيراوي) السجن متهماً بقتل «الخواجة»، الذي أراد انتهاك عرضه، وفي السجن يجد نفسه في مواجهة عالم جديد، مجتمع قاس، قوانين عجيبة وبشر أعجب، وعلى عكس الرواية، يختار المخرج الفصل بين مقاطع الفيلم بعناوين؛ مثل : «الميري» و«الملكي» و«الملكة سالي»، لا أظنها أضافت جديداً على الفيلم، الذي يشرح نفسه بنفسه، وكأنه وثائقي، عن السجن بملابس النزلاء تحت التحقيق، والأخرى لمن هم بانتظار الحكم عليهم، واستخدام الطعام والسجائر في المقايضة، والوسائل المُبتكرة لتهريب العقاقير المخدرة، بواسطة ولاة السجن أنفسهم، ومعمار السجن، وتقسيماته، والفصل العنصري بين «أسماك صغيرة»، من المساجين الذين لا ظهر لهم، و«حيتان كبيرة» تحكم، وتسيطر، وتهيمن، وتجد معاملة مميزة، وكأنها مازالت تملك النفوذ والسلطة (هل يذكرك هذا وفيلم «الأفوكاتو» (1983) تأليف وإخراج رأفت المهي ؟)، لكن «شرف»، الذي يُقدم دراما عرضية، رصدت واقع الحال في السجن، بأكثر مما اهتمت بالصراع المُحتدم داخله، يولي اهتماماً كبيراً، وتعاطفاً أكبر، بمأساة الدكتور «رمزي» (الممثل اللبناني فادي أبو سمرة) ضحية فساد، وتخريب، الشركات متعددة الجنسيات، وتحديداً شركات الأدوية، الذي تحول إلى مناضل، مُقاوم، مُحرض على الثورة، حالم بالحرية، ومُناهض للديكتاتورية، وكل المثل، والمباديء، التي حاول تكريسها في العرض المسرحي، الذي كلف بإخراجه، في عيد الثورة، وقام ببطولته السجناء، وجر عليه الكثير من المشاكل. وفي سياق هذا الرصد السريع سلط الفيلم الضوء على الضابط (التونسي خالد هويسة)، بما حمله، وأسقطه، من ايحاء يالقهر، والظلم، والانتهازية، والديكتاتورية و«الشيخ المهدي» (التونسي رضا بوقديدة)، المُعالج الروحاني، الذي قدمه الفيلم كأنموذج لللدجل الديني، والشعوذة، بينما يرمز «عم فوزي» (التونسي توفيق البحري) إلى الإنسانية المظلومة؛ إذ يدفع الثمن غالياً بسبب هفوة عابرة. وبإستثناء دور «أم شرف» (التونسية صالحة نصراوي)، همش الفيلم المرأة بشكل غير مبرر !
سجن الحياة
الهم: عربي
حتى هذه اللحظة، لا أعرف من صاحب اقتراح تحويل رواية «شرف»، من رواية تتناول الهم المصري؛ أي الشأن المحلي بنظر البعض، إلى فيلم يتحدث، بلسان العرب جميعاً، عن معاناة عربية مشتركة من القهر، والكبت، والسعي إلى الحرية، ومناهضة الظلم والديكتاتورية، وما استتبع هذا الاقتراح من اختيار ممثلين من مصر، سوريا، لبنان، فلسطين، العراق، الجزائر وتونس؛ فالاقتراح عمق القضية أكثر، ولمس الوجع بقوة، وإن تسببت اللهجات المحلية المختلفة في إرباك المتلقي أحياناً، مع تثمين التجربة، التي أظنها غير مسبوقة، والرؤية الطازجة كطزاجة وبراعة التصوير والإضاءة (داريا يبلتس)، في ديكور سجن بُني بالكامل داخل الأستوديو، ومع هذا تصدق الخيال وكأنه حقيقة، والحال نفسه بالنسبة للديكور (مهندس خليل خوجة)، الذي لا تشعر معه بضيق المكان، بل تسبح في أفق ممتد، وكأنه فضاء فسيح، بينما تمنحك الإضاءة، والألوان، والرؤية البصرية، بوجه عام، شعوراً بالاندماج، مع الرحابة، والقتامة، والتفاؤل، والتشاؤم، والمتناقضات التي امتلأ بها المكان، ولا تشعر، في لحظة، بأنها ثقيلة في وطأتها، بفضل مونتاج ناعم ورقيق (الألماني هانسيورج فايسبريخ)، وموسيقى عميقة الأثر (أولي بيلر) تداعب وجدانك، ومشاعرك، ولا تُشعرك بالغربة، والصدمة، رغم قسوة القضية . أما طاقم التمثيل، الذي يمكن القول، بحق، أنه «لم الشامي على المغربي»؛ فهو يصدمك، في البداية، ويُشعرك بأنه متنافر، لكن سرعان ما يجذبك بصدق مشاعره، وتلقائية ردات أفعاله، وتغلب روح الهواية على أفراده، وهي الروح التي بثها فيهم مخرج طموح اسمه سمير نصر، بدأ طموحه باختيار نص صعب (رواية لصنع الله إبراهيم)، وقضية شائكة (الحرية والديكتاتورية والهيمنة والتبعية)، واستعان بطاقات شابة غير مُستهلكة، وواصل طموحه بأن نجح في الخروج بفيلمه، ورؤيته، إلى النور، في أحلك الظروف. وأكبر الظن أنه سيواصل دفع الثمن في الأيام المُقبلة؛ بعد ما اختار أن يكون «شرف الأمة» في مواجهة «تحرش الخواجة» هي قضيته التي يُدافع عنها !
مع الحبيبة
التعليقات