مضت عقود طويلة أهملت فيها لغة الضاد وبدت وكأنها مكسورة الجناح في محل جر، لدرجة اننا خشينا أن تصبح من أخوات كان أو تغدو (لا محل لها من الإعراب) في عصرنا، ولكن خلال السنوات الأخيرة تضاعف الاهتمام بها على مستويات عديدة ليس فقط من جانب الناطقين بها الذين عقدوا لأول مرة قمة للغة العربية، وانما أيضا من جانب منظمات دولية في مقدمتها الأمم المتحدة التي بدأ أمينها العام كلمته المتلفزة بمناسبة اليوم العالمي للغة الضاد بقول بالعربي (السلام عليكم) مؤكدا أنها لغة غنية ونابضة بالحياة توحد مئات الملايين من الناس، وتربط نحو ملياري مسلم يستخدمونها في صلاتهم ودعائهم، وضمت (اليونسكو) الخط العربي للقائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، وذلك قبل أيام أعلن رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم أنه قدم اقتراحا باعتماد العربية كلغة رسمية لدى "الفيفا". إلى جانب فعاليات عديدة تجعلنا نطمئن الى أن العربية أصبحت (فاعلة في جملة) اهتمامات مفيدة جميعها في (محل رفع)!
إذا كنا قد سردنا في مقالات سابقة التحديات التي تواجه العربية، فإنه من الواجب أيضا عدم تجاهل الفرص التي تحظى بها لغتنا والجهود الإيجابية التي تبذل في سبيل الحفاظ عليها، ونستعرضها هنا لترسيخ الاهتمام بها على مستويات أوسع. وفي هذا السياق يمكننا أن نرصد عدة تطورات، ضمن فعاليات متنوعة تزامن بعضها مع الاحتفاء بيومها العالمي الذي يصادف 18 ديسمبر سنويا، حيث اختتمت الثلاثاء الماضي أعمال قمة اللغة العربية، في مركز دبي للمعارض تحت شعار "حوار المجتمعات وتواصل الحضارات". بالتزامن مع انعقاد الدورة الثانية والعشرين من مؤتمر وزراء الثقافة بالوطن العربي، بحضور الأمين العام لجامعة الدول العربية، حيث أطلق «إعلان الإمارات للغة العربية» الذي يعد مرجعا للمسؤولين في وطننا العربي لإطلاق المبادرات والمشاريع التي تحفظ لغتنا وتعزز حضورها.
وتضمن الإعلان 10 بنود أساسية، أولها أن اللغة العربية هوية ووطن جامع وصلة بين الماضي والحاضر ودعامة لازدهار المجتمع، وركز البند الثاني على تطوير تعليم العربية، ودعا الثالث إلى تحسين المحتوى العربي على الإنترنت وتطرق الرابع إلى تكنولوجيا اللغة العربية من خلال حاجتها إلى بنية تحتية رقمية تخاطب الإنسان والآلة. وأشار الخامس إلى الصناعات المتعلقة بلغتنا وحاجتها لمنح تنموية وبيئة استثمارية متطورة. وركزت بقية البنود على أهمية تطوير الترجمة من العربية وإليها. وبناء شراكات عالمية لدعم جهود تعلمها عالميا، وحاجة المجتمعات العربية إلى تخطيط لغوي سليم تتعاون على رسمه الحكومات ومؤسسات المجتمع، وتحديد السياسات المستقبلية للغة بهدف الحفاظ على مكانتها بين لغات العالم.
من جانب أخر تجري على أرض الواقع إجراءات عملية وتشريعية لترسيخ استخدام العربية، ومواجهة التراجع الخطير في مستوى تعليمها بالمدارس بخاصة الدولية، وصد غزو اللغات الأجنبية بصريا عبر الإعلانات ولافتات المحال. فمن المنتظر صدور قانون جديد، ترتيبه الحادي عشر من بين القوانين الهادفة إلى حماية اللغة العربية بمصر، حيث ناقشت لجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب، أخيرا مشروعين مقترحين في هذا الصدد ومن المرجح المزج بينهما تمهيدا لإقرار القانون.
ويفرض مشروع القانون على المدارس والمعلمين الالتزام بالعربية في التدريس، والالتزام باستخدامها في المصالح الحكومية، وفي أسماء الشوارع والأحياء والمتنزهات، ووسائل الإعلام الرسمية المرئية والمسموعة.
وشهد الاهتمام بالعربية تطورا نوعيا على المستوى العلمي حيث أطلق الشيخ الدكتور سلطان القاسمي حاكم الشارقة، المجلدات الـ 17 الأولى من "المعجم التاريخي للغة العربية"، الذي يؤرّخُ للمرة الأولى لمفردات لغة الضاد وتحولات استخدامها عبر 17 قرناً ماضية. وتم تخصيص موقع إلكتروني وتطبيق ذكي على الهواتف لهذا المعجم، يتيح لكل باحث الاطلاع على ما أنجز في هذا المعجم، والبحث عن الكلمات والنّصوصِ التي يريدها.
وخارج الوطن العربي تقرر تدريس لغة الضاد في ست جامعات كورية، بعد اعتمادها اللغة الأجنبية الثانية هناك. نرجو أن تكون جماهير المتحدثين بها على نفس المستوى من الاهتمام سواء على أرض الواقع أو في الفضاء الإلكتروني من خلال تعزيز المحتوى العربي على الإنترنت، حتى تظل العربية حالا منصوبا بين اللغات واسما مرفوعا في سماء المعرفة وليس فعلا ساكنا مبنيا للمجهول!!
التعليقات