كنت أتساءل هل دائماً تتلطى خلف المقطوعة الشعرية قصة معرفيّة مثيرة؟ وأقول: ربما، ولطالما نقلني هذا التساؤل إلى آخر غيره في السياق ذاته لكن بصيغة مختلفة: هل في الشعر ما يخصُّ الذهنيّ بقدر أكبر منه ما يخصُ العاطفيِّ؟ وأردّ: ربما، لكن المسألة على الأرجح نسبية. وهي كذلك بالنسبة لي.
وأسئلة مثل هذه تبدو للوهلة الأولى كبيرة وثقيلة، لكن سرعان ما تنكشف ضرورتها حال اعتبارها عتبة، ترفع المهتم إلى مستوى أرقى من النظر النافذ والكلام الماتع.
يحدث أن تقرأ مقطوعة من الشعر فتجد نفسك أنك لست أمام شاعر عاديِّ، ولست أمام شاعر مُفلق ومثقف فقط، بل شاعر موسوعيِّ المعرفة، وعلى قدر من العبقرية في توظيف ما يقع عليه النظر وتلمسه اليدان. وهذا ما أحدثه بيتاً من الشعر، بيتاً واحداً فقط.
باللهجة العاميّة العراقية، الدافئة والمحببة، نقرأ هذا البيت من مقطوعة للشاعر البديع مظفّر النوّاب:(مو حزن.. لكن حزين! مثل بلبل قعد متأخر لقى البستان كلها بلايَة تين). ليقفز تساؤل جديد: ما التين ما البلابل واستيقاظها المتأخر، ما العلاقة بينها، وما الإشارة؟
والتينُ ينقلك عبر اللون والطعم إلى بساتينه الخصبة في القرى الجبلية، وتحديداً في قرية (الحَلَقي) الإزيديّة، تلك المتحصّنة في أعلى جبل سنجار في الشمال العراقي: قرية شغفت بالندى منذ الأزل، وتغتسل به كل يوم على مدى الفصول، لكن سكنى الأسفل، بالكاد يستطيعون التقاط ملامح هذه القرى السحابية وتحديدها في الفجر، أما في الليل حين ينأ عنها القمر فالمسألة تكون أصعب، وحتى لو دنا الرائي بفضوله ليقف عند أقدام الجبل المهيب، فأنه لن ينعم.
في الأعلى، لا يضاهي بساتين التين في المرتفعات الباردة العصيّة، سوى غواية الرمان الناضج، والامتداد الأرجواني الآسر لحقول السمّاق. هنا، وحينما تغمرك إبداعات الخالق العظيم، يكون التوضؤ ضرورة لطهارة البصر؛ ففي بساتين التين والرمان وحقول السمّاق، والقدود الممشوقة، والوجوه الجميلة التي اكسبتها برودة النسمات في الأعالي نضارة دائمة، شيءٌ من رائحة الجنّة.
والبلابل وفقاً لابن منظور في لسانه العربي، هي من حيث لونها وأحجامها أنواع، وتعود كلها إلى سلالة الهدهديات في مملكة الطير، لكن ما أمكن تحديده من بينها، والوحيد الذي غرم بالتين دون سواه من الثمر، هو طائر (القبّج)، الذي ظل محافظاً على عادته المألوفة منذ فجر الزراعة، التي نقلت البشرية إلى الخضرة والاستقرار.
وعادة طائر القبّج يبدؤها بنقرة خفيفة لقشرة حبة التين لإحداث ثقب فيها على قدر منقاره، ثم يطير عنها إلى أقرب الماء، فيأتي بقطرات منه يستودعها قلبها، ويسدّ الفتحة بالطين ليضمن عدم خروجه، ثم ينتظر قسماً من النهار والليل بطوله لانبلاج الفجر الجديد، فيطير ولهاً إلى غبوقهِ، وقد تخمّر بمعسول التين، فيشربه، وبعدما يسري طعم (القند) في جسده اللدن، تنفرج اساريره، وتشتد حباله الصوتية، فيشدو بأعذب الألحان على مقامات الجنان، فتطرب له البساتين وكائناتها.
دنيا ميخائيل تروي لنا في (وشم الطائر) إن الحَلَقيين (= من قبيلة الحَلَقي الإزيديّة) في تلك القرية القمميّة في جبل سنجار، التي يصعد إليها المطر في الشتاء، خلافاً للأراضي المسطّحة في الأسفل، إذ يتنزّل عليها.. أنهم يحتفلون في كل عام بحرق أعداد مهولة من أقفاص العصافير، في رمزيّة دالة ومؤثرة تؤشر على جعلهم الحرية في أول سلم حياتهم، صنو الماء والهواء، بما في ذلك حرية الطيور بأنواعها واختلاف اجناسها بلا استثناء، مع اهتمام زائد بطائر واحد من بينها، هو طائر القبّج مدمن التين، مؤنس النهارات بالشدو الذي ما أن يبدأه حتى تدب الحياة في نفوسهم وبيتوهم وبساتينهم وانعامهم، فتغريده غدا بالنسبة لهم أشبه ما يكون بإشارة يقظة وحياة ضاجّة بالنشاط، أو أشبه برنين جرس كبير في قيعان المحيطات، أو باصطفاق شهب في أروقة الكون القصيّة، سنى لمعها يخرج الحديد مصهراً من الأرض، أو أشبه بنداء للصلاة من قلب الخليقة، يتردد صداه في المعابد فيعمّرها، والثمر ينضجهُ، وحقول الحنطة الخضراء يلوّحها فتصير يباساً يتشوّق لمنجل حاصدٍ ولهان.
ومر الزمن، وطائر القبّج المدمن لحشاشة التين، لا يكف عن نسج علاقته بحب وهدوء مع سكان الأعالي، فشغفوا به وشغف بهم، إلى أن قرر ألاَّ يتوقف عند شدوه اليومي، وإطرابِه المألوف للبساتين وكائنات الجبال، بل حاول عبر التكرار على الأرجح، أن ينقل صفيره البلابلي إلى سكان المرتفعات، لغةً جديدةً إلى جانب لغتهم الأم، يستعينون بها للتفاهم فيما بينهم عبر المسافات البعيدة التي يخفق صوت الإنسان العادي في تغطيتها أو قطعها على نحو مفهوم، فإشارات الصفير أكثر حدّة من إشارات الصوت البشري، مؤهلة للوصول إلى مسافات أبعد، وحتى لو استطاع الصوت العادي الوصول إلى المسافات البعيدة، فسيكون وصولاً واهناً لا يمكن تعرّف محتواه أو فك رسالته.
وإلى يومنا هذا، لا يزال سكان المرتفعات في القرى القمميّة لجبل سنجار، وجبليو التبت، ومعهم سكان جبال العالم، يتفاهمون مع بعضهم بعضاً عبر الصفير وتقاسيمه الموسيقية، محاكاة لمعلهم الأول طائر القبّج ذلك العاشق الصدّاح؛ فعبر الممارسة والزمن، نجح سكان الأعالي في الوصول إلى تثبيت معاني (شيفرات) محددة لهذا الصفير، حفظوها عن ظهر قلب وتداولوها فيما بينهم، لها دلالاتها الإبلاغية - الإخبارية، الواضحة من دون لبس أو خطأ، تطيّر أخبار أحداث تشكل بمجملها محور حياتهم اليومية الجبلية: فللحرائق الطارئة صفير معين، وللدعوة إلى وليمة عشاء أو غداء صفيرها المميز، وللمشاجرات على قلتها صفيرها المحدّد، ولإقامة حفلات الخطوبة والأعراس صفيرها الخاص بها، وحتى للاحتفال الجماعي بإنقاذ القمر من فم الحوت قبل ابتلاعه (= ليال الخسوف) صفيره المتوتر، وتطول قائمة التشفيرات للصفير المتداول لدى الحَلَقيين أولئك عشاق الطبيعة والحياة، فهي تحوي أدق التفاصيل للشؤون اليومية بما فيها رعي الأغنام والوجهة التي ستسرح إليها، ولا تنتهي تلك القائمة التي يحفّظونها لأطفالهم، بالدعوة إلى غسل الملابس والسجّاد عند الينبوع الشرقي أو الغربي في تلك القمة الجبلية.
نعم، وهكذا نفهم تجليات الشاعر في شعره، حينما يكون على علاقة بزيت المعرفة فيضيء علينا ولنا دروباً بحثية عدّة، ويوسّع مداركنا ويفتح عيوننا على مرئيات النور وما بعده. فللشاعر إجلاله طالما أفسح لنا في المجال نمتح من ينبوعه العذب الثّر ما قُدّر وسمح لنا به، ونردد معه: (مو حزن.. لا مو حزن، لكن أحبك من كنت يا اسمر جنين).
إعلامي وكاتب صحفي
التعليقات