دائمًا في الحياة كل يوم وطوال الوقت ستظل مُطالب بما قطعته على نفسك. مطالب بجودة الأداء في العمل، في بيتك وسط أصدقائك، بين أبنائك ووسط جيرانك.
ولكن…
هناك بعض العقود التي وقِعَت مع من رحل بلا ورق ولا شهود، بلا أحد يعرفها، وبلا خشية من أحد أن يعرفها، إنها عقود مع أحد ما غادر، أحب أن أطلق عليها "قُرُبات المحبة".
هل سمعت أن هناك كونتراتو مع ميت؟!!
نعم يا صديقي إنها تلك الكلمات التي لا يعرفها إلا الله وأنت ومن فقدت، تلك الكلمات التي ألزمت بها نفسك معه عن حب وكنت تفعلها معه بحب ولا زالت تصل إليه إلى الآن بحب وهو في دار الحق.
إن أرقى الوفاء هو ذاك الذي لا يعرف عنه أحد.
نحن لا نفقد أحبتنا أبدًا، هم يعيشون في بُعد آخر لا نراهم إلا من داخل فتحة صغيرة في قلوبنا، من باب خلفي يسمى باب الوفاء بالعهد.
في ظني يموت أحبابنا لنختبر نحن ليس بفقدهم بل بوفائنا بعهدهم من بعدهم.
كل من يموت يترك خلفه أحدًا يذكره، ويترك أيضا من يحتاج السند من بعده، فإذا فقدت حبيبك، ابحث عن من ينوب عنه في الدنيا؛ ليبقى فقيدك حاضرًا في قلبك للأبد.
أرى في فلسفة الموت أنه إختبار للوفاء، اختبار لكلمات وعهود الصدق بداخلك، اختبار لعقد غير مكتوب بينك وبين من فقدت له قوة القانون، لكنه قانون من المحبة، قانون للقلوب الفَطِنة، واختبار لكل ما يقيم بداخلك معظم الحياة.
تحدث كما يحلو لك، لكن لا تنسى وأنت تَعِد محدثك أن سيأتي اليوم الذي تقوم مقامه في دنيته بين احبته، ترأب صدع قلوبهم، حتمًا ستصنع منهم وفيهم المعجزات لو كنت صادقًا، والمؤكد أنك قد تستغرق عمرًا بأكمله بجانبهم.
في يوم من الأيام حتمًا سنلقى الأحبة، نبتسم ابتسامة يعرفها كلانا، سنحتضنهم حضنًا كان زمنه الحياة، وسنجلس نتبادل أواصر المحبة نتحدث عن دنيا قُطعت سنواتها في الكد والسعي والخيرات.
أحلم بكل أحبابي الذين فقدتهم جميعُا، لم أفقد وصلهم أبدًا، ولن أفعل!!
ونعم عقدت بيني وبين أحبتي هذا الكونتراتو، وغادروا، وآلامني مغادرتهم، لكني وجدت كل السلوى في من آنس وحشة قلبي من خلفهم.
ولعمري أن هذا الألم يخف بوصل مَن خَلفهم، حتى إني لأراهم وأحدثهم، وأعلم أن الله يبعث رضاه عني من خلالهم.
أطالبك يا صديقي أن تتوقف عن الحزن على من فقدت، فلم تفقد أحدًا، ألا ترى أن حبيبك لا زال موجود يتنفس في صدر أحدهم؟ كيف تتحدث عن الفقد ولا يزال مَن خَلفه أحياء؟ كيف يؤرقك الفقد ولا يزال الله يقيم بداخلك الحياة ليس لأنك تستحق العيش، بل لأنك تُختبر في عقد الكلمة؟
صحيح أن الله أمرنا أن نوفي بالعقود، لكني أؤمن أن العقد الغير مكتوب أحق وأبدى وأولى بالسداد أولا!
هناك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: "إن لله جلساء يوم القيامة عن يمين العرش على منابر من نور، وجوههم من نور، ليسوا بأنبياء ولا شهداء ولا صديقين. قيل يا رسول الله من هم؟ قال: هم المتحابون بجلال الله تبارك وتعالى".
صديقي لست بحاجة لأن تكون نبي أو شهيد لتعلو مرتبتك في الجنة ويعرفك الجميع، بل تحتاج لأن تقطع عهدًا مع غير ذي صلة رحم وأن تظل له وفيًا عمرًا بأكمله.
أنت تُسأل عن رحمك، فإذا التزمت بأبعد منهم تستحق الخلود في القلوب.
سيجعل الله لك يوم القيامة منابر من نور فيُجلِسَك عليها، في وجهك نورًا وفي ثيابك نورُا، يفزع الناس يوم القيامة ولا تفزع وتصبح من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فهنيئا لأحبابي خلودهم إلى جوار الرحمن، إلى أن ألقاكم استودعكم جزء من قلبي تركته لديكم، واُطَمئِنكم لازلت على العهد ولا يزال حبر محبتي يوثق الكونتراتو.
التعليقات