لا إجابة واضحة وجلية لسؤالي المستحيل، ببساطة لا أحد استطاعَ جوابي، هنالكَ ثمة أسئلة وقف علماءُ المنطقِ والكلام والفلاسفة أمامها حائرين، هل الكون يُدار بذاتهِ أم بقدرةِ إله.. هل البيضةُ أوجدت الدجاجة أم الدجاجة أوجدتها... هل قتلوا المسيح أم صلبوه، ليضاف للجدل البيزنطي لغزٌ آخر مصدرهُ سؤالي الذي يقلقني ويجوش في كياني دونما إجابة تذكر كسفينةٍ تتلاطمها الأمواج فلا ميناء ترسو به ولا نجماً بارقاً يُرشِدُ ضياعها...
هي ذا طبائعنا، هي ذا أهوائنا، هي ذا صفاتنا فمن كان على اليمين نَفَر من صاحب اليسار، ومن اعتنق فكرةٍ ما دحضَ سواها، ومن عبد الله أنكر غيرة ومن ألحد به قال لا إله بالكون البتة!!! لذلك ليس غريبا أن لا ألقى جواباً لما تسألهُ خافية عقلي وبطانةُ ذاتي كل يوم، إذاً هو السؤالُ ذي الجواب الأبتر دائماً ... هل كان أبي خائناً أم شهيد؟
ما كان يجمعني ذاك الوقت مع رفاقي هي مقاعد مدرستي الابتدائية، بعضهم كان يقرف من النظر تجاهي فأنا سليل الخائن، وبعضهم كاد أن يرفعني لرتبة القديس لأني من صُلب البطل الشهيد..
بعضُ المدرسين كان لمجرد أن يراني يصفعني على رقبتي وبعضهم كان يركلني كلما مررتُ بحذائه وهو يسوقُ لي لعناتهِ وكلماتهِ النابية تجاه أبي الخائن، أما بعضهم كان يدسُ بجيب صدارتي خلسةً بعض النقود ويقول لي هامساً خشيةَ أن يراهُ أحد : كان الله بعون أسرتك يا بني فقد رحل معيلكم شهيدا نحو ربه، استعن بهذه النقود على شراء شطيرةٍ شهية بعد الدوام..
أعود بتلك النقود لأصبها بكفِ والدتي الأرملة فشهيتي لشطيرة اللحم ليست أعظم من حاجة أسرتي و إخوتي لكل قرش، تحتضنني أمي وتقول لي : روح أباك الشهيد وعدتني بالفرج، أقول لها : لكن خالي -والذي هو أخاكِ- يمشي بين الناس مختالاً متباهياً وهو يقول: أنا بريئٌ من زوجُ اختي الخائن، أريد أن أعرف يا أمي أيكما على حق؟
من يؤكدون لي بأن أبي كان شهيداً يظهر بموازاتهم من يقولون لي أنهُ خائن، لا يهم هذا الآن فما أعرفهُ بأني نشأتُ يتيماً بعدما حُجِب عني حضن أبي الدافئ ، فلا ملاذَ لي حينما تعصفُ الكروب بقلبي أو حينما تداهمني النوائب فمن كنتُ ألوذُ بحماهُ قد ترجل، لقد كان موطئَ وموطنَ أماني، لقد كان النشيد لي والأغاني، لقد كان قوتي والمثاني .....
إبرةُ بوصلتي تتأرجح بين اللا أشياء يمينها يسار ويسارها يمين ، فعقلي المشتت أمسى لا يدرك الجواب وبالأصح لا يريده، لأني فعلا لم أعد أريده، إن كان أبي في الجنة فهذا منطقي وإن كان في النار فهو لما يزل في جنة قلبي لا يبرحها قط.... آهٍ كم اشتقتُ إليك يا أبي، مجرد أمنية لا يتمناها إلا طفل صغير مثلي فلو كنت بالنار اللهم إجعلني من ساكنيها كي أكون معك و بجوارك حتى تحتضنني وتلعب معي، لن أنسى كم كنتُ أمتطي ظهرك كما يُمتطى الحصان وعلى الرغم من غلاظتي إلا أنك لم تكن تُظهر أي سيماءٍ لضجر أو امتعاض حتى لو أَدميتُ بلعبي ركبتيك... لن أنسى ذلك المساء الماطر البارد حينما عُدتَ من عملك وفتحتُ لك الباب وقلتُ لك أنسيتَ أن تبتاعَ لي حذاء الرياضة كما وعدتي، لن أنسى كيف قفرتَ عائداً نحو المدينة رغم تعبك وبردك وجوعك وحينما استيقظتُ في الصباح التالي كي أذهب للمدرسة وجدتُ الحذاء بجوار وسادتي ......
أبي أيها الشهيد أو أيها الخائن-سيان الآن- ما كنت أراهُ فيكَ من صفات وطبائع لا يهبها الله لساكن نار بل هي من صفات أهل الجنة كما علمنا ذلك أستاذ الدين بالمدرسة ، فلماذا يقولون عنكَ أنك خائن ، أنت من زرعت فيني حب الوطن إبتداءً من عشقِ البيت فالحارة فالقرية وصولاً للبلاد بأسرها، أنت من علمتني أن أكون عطوفاً محباً متواضعاً شهماً ، أنت من غرست فيني الشموخ وعزة النفس ورفع الهامة، كيف يصفوك بالخائن وكيف من يكون بصفاتك يخون !!
لمجرد أنك لم تكن معهم ضد خصومهم قتلوك، أعلم وربي أنكَ نأيت بنفسكَ عمن سواك ورفضتَ أن تتحزب مع أيَ الفريقين خلال الحرب الأهلية التي مزقت البلاد ولأجل هذا قُتلت، فخونك هذا الفريق وذاك الفريقُ مجدك، وما أنت إلا مُمجداً بقلبي وعقلي وروحي ......
والدي أيها الخائن الشهيد إن خير ما فعلتهُ أنك رحلت من هذه الدنيا فمثلك لا يكون سكناه بيننا، بل يكون مثواه في السماء بجوار الله هنالك سواءً بالجنة أو بالنار فشرهماخيرٌ لهُ من الدنيا و مافيها بين عصبةِ المتخاصمين ....
لتذهب شعاراتهم للجحيم فلن تكون أغلى من دمك وأنقى من صفاءِ روحك ما أعلمه أنك رحلت وحسب وتركتني يتيماً بالجسد والروح، اللهم اشهد أني لا أسامحهم وكيف أسامحهم وهم من قتلوا الوطن بأسره قبل أن يقتلوك ويرقصوا فوق دمكَ الطاهر بإسم الله و بإسم الشيطان أيضاً، فحريتهم التي نشدوها ظلماً و فجوراً عبروها من جسدك الطاهر يا أبي و لحاهم التي في وجوههم هي منهم براء ...
لم يعد جدلاً بيزنطينياً أبدا لأني لامستُ الحقيقة و أدركت اللامُدرك في ليلةٍ أبى فيها النومَ أن يعاقرني من شدةِ قلقي، فنهضتُ من فراشي ليلتها وفتحتُ نافذة الحجرة التي أنام فيها، كان هدوءُ الليل مخيف و الهواءُ بالخارج باردٌ جداً كنتُ أنظر للأفق حينما أغمضتُ عيناي وأسدرت خيالي نحو أعماقِ و دهاليز التفكير، و أخذتُ شهيقاً عميقاً سُقتهُ لرئتي و حبستُ خلفهُ أنفاسي فأحسستُ بروحي تُنزعُ من جسدي لتطير في علياءٍ شامخةٍ نحو الأعالي، مررتُ بالسحابِ الـمُزجى ثم بغيهبِ الكون الدامسِ ثم برق بوجهي ضوءُ نجمٍ عملاق بريقاً كاد أن يخطف بصري، بعد ذلك أحسستُ بأنني أُلقى في مكانٍ لا أستطع تعريفه هو المستحيل لكنه ليس بمستحيل، هو الشيء لكنه اللاشيئ، نورهُ الشديد كأنه ظلام، فيه جسدي يرتعش من الحر و يتصببُ عرقاً من البرد..
لا أعرف كيف وبماذا أوصفه كأنهُ ثقبٌ أسود تموت فيه قوانين الطبيعة و الفيزياء و تحيا بهِ قوانين جديدة لا أدركها، وفي خضم هذا و ذاك رأيتُ أبي يقفُ من بعيد وهو ينظر نحوي مبتسماً ضحوكا، فهرعتُ نحوه بجنون بعدما فتحَ لي ذراعيهِ لاستقبالي، ارتميتُ بحضنه، كنا نبكي ونضحكُ معاً استنشقتُ منهُ عطراً زكياً كأنهُ شقائق النعمان قلتُ له بشغف، أبي هل أنت بالجنة أم النار أخبرني كيما ترتاحُ نفسي وتطمئن، ابتسمَ بثقة و قبلني من جبيني وقال لي: أنا الآن معك يا مشيجَ فؤادي و روحي فأنتَ جنتي...فجأة أحسستُ بيدٍ تربتُ على كتفي فانقطع اتصالي الغريب مع والدي ففتحتُ عيناي ثم استدرتُ للخلف فرأيت أمي تنظر نحوي وهي تبكي ثم قالت لي : عُد لفراشك ونَم يا مشيج فؤادي و روحي واترك التفكير عنك، اغرورقت عينايا بالدموع ونظرتُ مجدداً نحو الأفق وقلتُ بصوتٍ جهور إرقد بسلامٍ الآن يا أبتي إرقد بسلام فلقد علمتُ الجواب و عرفتُ مسكنك فلترقد بسلامٍ يا أبتي.
التعليقات