في أثناء مسيرة الحياة، نتعرض لمواقف كثيرة، منها ما يمر بسلام، ومنها ما يؤدي إلى حدوث تغيرات في ذواتنا ومساراتنا ومحيطنا بشكل أو بآخر.
لم يكن أحد يتوقع أن يغير "موقف بسيط" حياة شخص، أو أن يغير تاريخ أمة بأكملها، ولا مبالغة عندما نقول إنه قد أثر في تاريخ الإنسانية كلها، فهو إنسان ألهم الكثيرين حول العالم، كما اكتسب احترام وحب الجميع.
أتحدث عن "موهانداس كرمشاند غاندي" أو "المهاتما غاندي"، الذي ولد في "الهند" عام 1869م، وحين كان شابًا في مقتبل حياته، ضاقت به السبل، فقرر قبول فرصة العمل محاميًا في شركة هندية بـ "جنوب إفريقيا" عام 1893م، التي كانت ضمن "الإمبراطورية البريطانية"، مثل دول كثيرة منها "الهند".
قضى "المهاتما غاندي" هناك قرابة العشرين عامًا، وفي أثناء تلك الفترة، تعرض لمواقف كثيرة وغريبة، تتلخص كلها في "التمييز العنصري" ضد ذوي البشرة الملونة، فمنذ اللحظة الأولى، انتبه إلى أن العمال الهنود والأسيويين يعاملون كالعبيد بسبب بشرتهم السمراء، وكان أحد تلك المواقف "حدث" غيّر تفكيره وذاته إلى الأبد.
بدأ المشهد عندما قرر "غاندي" السفر من مدينة "دوربان" إلى "بريتوريا" التي تقع في الجزء الشمالي من مقاطعة "جوتنج" في "جنوب إفريقيا"، نيابة عن موكله التاجر "دادا عبد الله"، حيث حجز مقاعد في الدرجة الأولى بالقطار. وعندما توقف القطار في مدينة "بيترماريتسبورج"، وفي أثناء جلوسه على مقعده استعدادًا لاستكمال الرحلة؛ إذا برجل أبيض البشرة يطلب من قائد القطار أن ينقل "غاندي" إلى العربات الخلفية (عربات الدرجة الثالثة)، مدّعيًا أن تلك العربة مخصصة لذوي البشرة البيضاء فقط، وعندما رفض "غاندي" التحرك من مكانه وتمسك بحقه؛ جاء بعض من الحراس وطردوه من القطار وألقوا بحقائبه على رصيف المحطة.
في تلك الليلية الشتوية الباردة، صمد "غاندي" طوال الليل وهو ينتظر رحلة القطار التالية في غرفة الانتظار.. التي كانت صغيرة ولا يوجد بها مصدر للتدفئة. وصل الأمر لدرجة أنه لم يطلب من ناظر المحطة أن يحضر معطفه من حقيبته ـ ليحتمي به من البرد الشديد ـ خشية أن يُهان مرة أخرى. وخلال تلك الفترة، جلس ليفكر ويسأل نفسه: "لماذا لا يتمتع ذوو البشرة السمراء أو السوداء بالحقوق نفسها التي يتمتع بها ذوو البشرة البيضاء"؛ فقرر مساعدة الهنود والآسيويين للدفاع عن أنفسهم سلميًا.
استمر "غاندي" في دعم الأقليات الآسيوية منذ تلك الحادثة، وحتى عند عودته إلى "الهند" عام 1914م، وكان مبدؤه أن الدفاع عن الحق لا ينبغي أن يؤدي أبدًا إلى الغضب أو العنف. وبعد عودته إلى بلده؛ كان أنصاره في "جنوب إفريقيا" قد حققوا انتصارًا كبيرًا سلميًا، وبدأت الحكومة بتغيير بعض القوانين مثل: تقليل الضرائب التي كان يدفعها الهنود، والاعتراف رسميًا بعقود زواجهم، وإصدار الهوية لهم.
ذاع صيت "غاندي" وانتشر في الهند بعد ما حدث في "جنوب إفريقيا"، فكان الآلاف في استقباله بالهند؛ ليبدأ رحلة جديدة نحو التغيير الذاتي والمجتمعي، حتى أصبح الأب الروحي لـ "الهند الحديثة".
المغزى من قصة "غاندي" هو أن الإيمان الداخلي له أدى إلى استيعابه وإدراكه أن الدفاع عن الحق، هو خطوة في اتجاه التغيير السلمي للأوضاع، ولو كان استسلم لما حدث له ولم يغير ذاته ويدعم الأخرين، لما استطاع تحقيق النجاح لنفسه أو لمجتمعه، وبالتالي، لما استطاع ترك إرث لنا نتعلم من خلاله قوة الذات البشرية وعوائدها على المجتمعات.
إن الإيمان بالذات ووضع الأهداف الصحيحة مع وجود رؤية وتحديد الرسالة الشخصية والمجتمعية، بالإضافة إلى عناصر الإصرار والعزيمة والإرادة، كلها عناصر تصنع حياة ناجحة ومجتمعا راقيًا. فالخيبة مصير كل من قال "نفسي ثم نفسي" فقط، لأن كل فرد هو جزء من نسيج واحد "من مجتمعه"، وقد يصل أثره إلى مجتمعات أخرى.
قد يتفق أو يختلف معي البعض حول أهمية التغيير خلال مسيرة حياة أي فرد عادي أو حتى لو كان قائدًا. لكن نتفق جميعًا على أن التغيير في مختلف أوجه الحياة؛ هو بمثابة محور فاصل بين الفشل والنجاح، في حال إذا كنا نريد الارتقاء بالذات ونمو المجتمع الذي نعيش فيه.
وختامًا، إذا قادتك الظروف لزيارة محطة "بيترماريتسبورج" بـ "جنوب أفريقيا"، ستجد تمثالًا لـ "غاندي" على رصيف المحطة، ولافتة في نفس الموقع الذي شهد طرده من القطار مكتوبا عليها: "هذه الواقعة غيرت مجرى حياته".
التعليقات