هل ورد على عقلك يومًا تساؤل عن فائدة الكتابة؟
هل سألت نفسك لماذا نكتب؟!
أو.. ما الفائدة العائدة علينا من ذاك الفعل؟
لِمَ يهدر إنسان أيامًا من عمره في إعداد كتاب، أو تنسيق عدة أبيات شعرية، وما النتيجة المرجوة من رؤية الآخرين لمؤلَفِ أحدهم؟
حسنّا.. هذه الأسئلة لا تزور رأس إنسان فجأة! بل تولدُ معه في سنوات عمره الأولىٰ، وقتما يرىٰ أهله يدربونه على صحيح النطق ويدفعونه لتعلم المسميات الصحيحة للأشياء؛ ثم يتطور الأمر فيحضرون له ورقة وقلمًا، ويبدأون معه رحلة تعلم لغة ما!...وغالبًا ما تكون البداية بلغته الأم ليبدأ بكيف يكتب اسمه، وينتهي بكتابة أي كلمة تخطر علىٰ باله.
فالطفل يولد على طبيعته حتىٰ يشرَعَ والداه وبيئته الصغيرة والتي سرعان ما تكبر بمرور الزمن في توجيهه، فيتعلم منهم سواء بالطريق المباشر أو غير المباشر كيف يحيا ويرىٰ ويعبِّر! ومن كان محظوظًا بشكل كافٍ يجد بيئة تدفعه للقراءة فتمد إليه يد العون في شكل أوراق ملونة منذ نشأته الأولىٰ، سرعان ما يعي أنها عالم جديد يُسمى القصص المصورة.. قصص عن أطفال يشبهونه..يلعبون في حقول خضراء ويصاحبون حيوانًا أليفًا ويتناولون طعامًا صحيًا..
وفي نهاية كل يوم بينما يتدثرون بالغطاء في سرير دافيء نتمنىٰ أن يحصل عليه كل طفل في هذا العالم يراجعون أنفسهم ليروا كم فعلًا صحيحًا قاموا به ليداوموا عليه، وكم فعلًا مشينًا ارتكبوا ليجتنبوا الوقوع فيه ثانيةً، وتمر بهم الأيام فيجدون بين أيديهم كتبًا تعليمية عن كافة المجالات، ومن كانت نفسه تواقة للآداب يرىٰ روحه في النصوص الشعرية ودروس القراءة، فيكبر عالمه ويزداد معرفة ويشعر كما لو أنه قد رحل لبلدان كثيرة بينما هو ثابت في مكانه لا تتعدىٰ رحلاته الصغيرة البيت والمدرسة وبعض النزهات القليلة مع الأهل ورفاق الصبا في حيهم.
وبمرور كل عام يتغير لون الأدب في نفسه، ففي الأمس قرأ عن الأطفال في عدة بلدان ، واليوم يقرأ عن شباب مثله، وفي الغد قد يقرأ عن كبار الأدباء والمفكرين والعلماء ومن غَيَّروا وجه العالم.. يرىٰ من كتاباتهم أنهم كانوا ذات يوم صغارًا مثله.. يملأون الأرض بضحكات حقيقة ودموع بريئة إلا أن شيئًا ما داخلهم دفعهم لدائرة الكتابة.. ربما كانت أمًا متفهمة أو والدًا مهتمـًا، وربما مكتبة نائية علىٰ أطراف البلدة لم ير أحدهم بها قيمةً سواه هو ورجل عجوز لم يلتفت إليه الناس أبدًا، وربما لم يروه من الأساس إلا أنه قرر أن يرعاها طوال عمره من أجل صبي مثله قد يفتح بابها المهجور ويزور عالمها الواسع ذات يوم! وربما صادفه معلم جيد أراه في نفسه ما لم يره الآخرون وربما، وربما....فالطريقة التي دفعته ليست مهمة بل ما صار إليه هو الأهم!
وها هو يأتي إليك الآن بعد تجربته الطويلة ليدفع إليك بنفسه وأحلامه وعباراته وعبراته علك تراه أو ترىٰ نفسك فيه.. يُقصِّر عليك المشوار ويعلمك ما لم يُعلمه إياه أحد عندما كان في مثل عمرك.. يريك طريقًا ربما لا ولن يكون طريقك ولكنه من المؤكد أنه طريق مشرف تفخر برؤيته وتدفع من حولك لرؤياه أيضًا..
لهذا نكتب....
نكتب حتىٰ نُرِيَ مَن حولنا مَن نكون، وما كنا، وإلام صرنا!
نكتب حتىٰ يتذكرنا الآخرون ويرانا مَن حولنا...
نكتب حتىٰ نضيء عقول الصغار ونلفت نظر الكبار..
نكتب لأن الوقت لا يتسع لكل هذه الكلمات الكامنة في صدورنا، ولأن الوقت الذي نستغرقه في إعداد كتاب هو أقصر من وقتٍ نضيعه في الحديث إلى آخرين عن كل ما مضىٰ، وعن كل ما لن يُستعاد..
نكتب ونرجو أن يقرأنا الآخر كما نحن...نكتب ونحن نتخيل طفلًا صغيرًا في أقاصي الأرض يحتضن أوراقنا في نهاية ليلة شتوية ماطرة، وبجانبه مصباح صغير يعينه علىٰ رؤية الكلمات!
نكتب لأجل ذاك الطفل..لأجل أن يكبر ذات يوم وبداخله بعض الشغف والامتنان والرغبة في أن يصبح شيئًا ما.. شيئًا يسعده ويأتي بالخير لمن حوله.. شيئًا يتمنىٰ ذات يوم أن يكتب هو عنه أو أن يكتب الآخرون عنه..!
والآن لعلك عزيزي القاريء عرفت لماذا نكتب؟!
التعليقات