قرر الأب أن يتنازل عن "القايمة"، ويكتب مكانها "من يؤتمن على العرض، لا يُسأل عن المال"، كتبها بخط عربي أصيل، وربما طلب من أحد الخطَّاطين المتخصصين كتابتها، وكأنه خطط مُسبقًا لنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي؛ تفاخرًا بموقفه الرجولي كما يعتقد هو، وتباهيًا بتنازله عن حق لا يمتلكه، وهو حق ابنته، الذي شرعه الدين، على أساس مبدأ الثقة في الرجل الذي سوف يتزوج ابنته، وكالعادة تم تداول صورة "القايمة" كالنار في الهشيم على كل حسابات التواصل الاجتماعي، والجميل في الموضوع أن كل واحد كتب التعليق الذي يتوافق مع تجاربه السابقة، أو ربما مخططاته المستقبلية، بعيدًا عن رأي الدين والشرع، وبعيدًا عن حقوق تلك الزوجة، وبعيدًا عن أحقية هذا الرجل الذي سوف يؤتمن على العرض، ولن يُسأل عن المال، وكما اعتدنا في "السوشيال ميديا"، فهي تسير دائمًا بسياسة القطيع، والقطيع كان يسير خلف الأب، وكرم أخلاقه مع زوج ابنته، وبعيدًا عن تكرار ما تداولته "السوشيال ميديا" من أحاديث مُرسلة بعيدة عن الواقع، يبقى السؤال: لماذا لم يُبادله العريس المؤتمن على العرض، ويرفض تفريط الأب في حقوق ابنته، ويوقع "القايمة" على بياض مثلاً؛ تبادلاً لُحسن النية فيما بينهما؟! لكنه لم يفعل ذلك، واكتفى بـ "شكرًا يا عمي".
في الحقيقة، والد هذه العروس يُذكرني بسيدة اتصلت بالدكتور "مبروك عطية" الداعية الإسلامي، في أحد البرامج التليفزيونية تستشيره في طلب الطلاق من زوجها؛ لأنها لم تعد تحتمل الحياة معه، فرد عليها الدكتور "مبروك عطية" قائلاً: (إنتي فاكرة إنك حتتطلقي وحتتجوزي الفاروق "عمر بن الخطاب"، السوق مضروب يا بنتي). هذا ما يجب أن يعلمه كل أب أنه لن يُزوج ابنته للفاروق "عمر بن الخطاب" (رضي الله عنه)، ويجب أن يعلم أيضاً أن لدينا في مصر أكثر من 218 ألف حالة طلاق خلال عام 2020 طبقاً لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وأننا لدينا حالة طلاق واحدة كل 2 دقيقة و20 ثانية، و27 حالة في الساعة، و651 حالة في اليوم، وأكثر من 7000 حالة طلاق في الشهر، ومن المؤكد أن الـ 218 ألف أب العام الماضي، كانوا يعتقدون أنهم اشتروا (راجل) يؤتمن على العرض، ولا يُسأل عن المال، لكن الواقع كشف الجانب الآخر؛ ليصل الأمر إلى الطلاق، الذي هو أبغض الحلال عند الله، لذلك وُضعت القوانين والتشريعات لتلك العلاقة؛ من أجل أن تحمي حقوق المرأة والزوجة.
أعلم أن هناك من يقول ويُردد: ماذا سوف تفعل الزوجة بالمؤخر أو بـ"القايمة" و"شوية عفش" إذا انفصلت عن زوجها؟! أقول له: ربما أنت وغيرك كثيرون لا تمثل "القايمة" أو المؤخر أو أيُّ حقوق للزوجة شيئًا، لكن كل هذا يمثل الكثير بالنسبة للبعض الآخر.
أذكر أنني كنت شاهد عيان على واقعتين: الأولى، والدها كان متشددًا في كتابة حقوقها كاملة دون تعدٍ على حقوق الطرف الآخر، وبالشكل الذي ارتضاه الجميع بما فيهم العريس، والثانية، كان والدها متوفيًا، وعمها كان وليها، و"اشتروا راجل" يؤتمن على العرض، ولا يُسأل عن المال، رُزقت الأولى بطفل واحد، والثانية بأربعة أطفال، بدأت الخلافات الزوجية مع الاثنتين، لم تفلح محاولات الأهل والأقرباء في حل الخلافات فيما بينهما، ووصل الأمر لطلب الطلاق، ولأن كلاً منهما ليس رجلاً، ولا يعرف معنًى لحقوق الزوجة، وبعيدًا كل البُعد عن ما تحمله كلمة رجل من معانٍ، تحول الموضوع لقضية تنظرها المحاكم، الأولى: حصلت على حقوقها كاملة، ونجحت في استثمارها بالشكل الذي جعلها تعيش في أمان دون الحاجه لأحد، والثانية: لم تحصل على شئ، وانتهى الأمر بطلب الخُلع؛ لأنه رفض حتى الطلاق، ورفض حتى الانفاق عبى أطفاله، وتعيش الآن في شقاء لا تعلم متى ينتهي؟. هذا هو واقع الحياة، وواقع رجال هذا الزمن، هذا الواقع الذي جعل نسب الأسر التي تعولها نساء في العالم يصل إلى 43 %، أي ما يُقارب نصف عدد سكان العالم، و20% في أوروبا وأميركا، و12.5 % في الدول العربية، وفي مصر تتراوح نسبة المرأة المعيلة بين 22 و33 %، والمرأة المُعيلة لمن لا يعرف هي: المطلقة، والأرملة، وزوجة العاجز، أو المريض، أو المسجون، والملزمة بإعالة أسرتها.
لذلك أقول لكل أب: لا تنخدع في الملاك الذي يتقدم لابنتك، وتتنازل عن حقوقها، وإن أردت ذلك، انتظر فقط عشر سنوات، لتتأكد من حُسن نواياه، بعدها تنازل إن أردت ذلك؛ فهذا الجيل يحتاج لهذه المدة حتى نعرفه جيدًا، وحتى نأتمنه على العرض، ولا نسأله عن المال.
لست مع المغالاة في الأرقام التي تُكتب الآن في "القايمة"، أو الأرقام التي تُطلب في الشبكة والمقدم والمؤخر، لكن في نفس الوقت مع الوسطية دون ظلم أي طرف.
قال تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً")، أي أعطوهن مهورهن فريضة، هذا ما أمر الله به، والصدقة هي حقوقها، بعيدًا عن المسميات المتعارف عليها من مهر، ومقدم، ومؤخر، وقائمة المنقولات، أو "القايمة"، فكلها مُسميات تندرج تحت بند حقوق المرأة، وشرعًا: لا يحق للأب، أو الأخ، أو ولي المرأة أيًا كانت صلة قرابته بها، أن يتنازل عن حق من حقوقها، فقط هي التي تملك هذا الحق.
كلمة أخيرة:
قال الله تعالى في سورة النساء: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) واصفًا العلاقة الزوجية بالميثاق، والعهد القوي والغليظ؛ دلالة على قدسية تلك العلاقة، وقوة الرابط بين الزوجين اللذين يتشاركان الحياة معًا. وأعتقد أن القرآن الكريم لم يصف أيّ رابط أو أيّ علاقة بالميثاق الغليظ، حتى علاقة الله تعالى بعباده، لم توصف بالميثاق الغليظ.
التعليقات