جرى فى جسدها تيار بارد وصمتت برهة من الزمن وكأن فداحة الصدمة أنستها اللغة وذبحت صوتها لا تدري كم مر عليها من الزمن وهي على هذا الحال ولكن أطراف شعورها التى كانت بعيدة فى زحمة التفكير أدت بها إلى جعجعة الصمت.
هكذا كان حال صفاء عندما هاتفتها صديقتها مُنى لتخطبها لزوجها منتصر.
صفاء تلك المرأة المطلقة التى عاشت حقبة من الزمن تحت إمرة زوج ظالم كانت حياتها معه لا تتعدى صفحة فى كتاب لكن تلك الصفحة كانت بحجم سرير ولا يُسمح لها بالحياة خارج تلك الصفحة فكان زوجها لا يرى منها إلا جسداً.
بعد أن رحمها الله بالطلاق منه التقفتها من وحدتها صديقتها مُنى وزوجها منتصر وكان منتصر يكبر مٌنى بعشرين عاماً.
وساندا هما الاثنان صفاء حتى تم طلاقها وكان الزوج المتقاعد ذو الثلاثة والستين عاماً عاشقاً للقراءة ولديه مكتبة ضخمة تستحوذ على مساحة غير صغيرة من منزله مما أسعد صفاء الشغوفة بالقراءة والمعرفة وكانت القراءة تنتشلها من ضجيج الحياة إلى عالم تصنعه هي بنفسها وتعيش دور البطلة فى صفحات كل قصة تقرأها كانت القراءة سلواها ونافذة تطل منها على عالم من صنع يديها وكان منتصر يهاتفها بشكل رسمي يتبادلا فيه الأراء حول ما قرءا وكانت تعتبره بمثابة أب لها فكان يكبرها بثلاثة وعشرين عاما وفى غضون آخر أنفاس للصداقة بدد رنين الهاتف فى ذلك الساعة المتأخرة بقية سويعات سُبات متناثرة.
- أعتذر لإتصالي فى هذه الساعة المتأخرة ولكني أريد التحدث إليكي فى أمر هام.
- ماذا بكِ يا مُنى اخبرينى ؟!
-لا شيء فقط أريد أن أطلب يدكِ لزوجي منتصر .
وهنا انتفضت صفاء واقفة كما يفعل المُغمي عليه حين تصب على رأسه الماء وسألت مٌنى مرارا أن تُعيد عليها ماقالت لعلها تفهم منه شيئاً.
- مُنى ما الذي تسألين إنه أبي كيف هذا ؟ أتهذين أم فقدتي عقلك !!
- أنا لا أهذي إنما أريد الطلاق والخلاص منه إنّ بيننا خلافات جمة منذ سنوات طويلة وكنت أعيش فقط من أجل أولادي
- أنا لا أفهم شيئاً مشاكل مع منتصر ذلك الرجل الوقور المثقف هادىء الطبع الذى رفعته لمثابة أبي كيف هذا !!
- صدقيني يا صفاء هذه هى الحقيقة إن الذين يتدثرون بمعاطف الفضيلة ليزينوا ظاهرهم فقط فلا تتعدى فضيلتهم معاطفهم ويظل باطنهم فارغاً .
ظلت صفاء ما بين كيف وأخرى لا تفهم شيئاً فما يقال أكبر من استيعابها وظلت تهذي بالأسئلة دون إجابة.
- بعد أن لملمت صفاء أشلاء عقلها الذي بددته الصدمة سألتها (وإن كان ما تقولينه صحيحاً فكيف إذا تُلقي وابل حياتك عليّ لماذا تريدي تعكيُر صفائي؟! اذهبي وابحثي له عن كبشٍ غيري).
-اعتبريها صفقة هو لديه من المال الكثير وبذلك سيؤمن لك مستقبلا مُيّسرا .
- اصمتي رجاءاً اصمتي
- إذاً تزوجيه شهراً واحدا حتى يتم طلاقي فأنتي الثمن الوحيد لطلاقي ضحي لأجلي، بشهر واحد من حياتك فقط .
- اصمتي واغلقي الهاتف كفى هذياناً كفى.
أغلقت صفاء الهاتف وهي تتأجج غضباً من صديقتها ظلّت تتخبط بكفيها وظل عقلها يهذي وظلت تدور في أرجاء المنزل يميناً ويساراً كان كل شيء حولها يؤرقها حتى الضفيرة الملتفة خلف رأسها فكتها وبدأت تحلها بغضب لقد هُدم صرح الصداقة ونُقض الغزل، وتداعت الأحلام وبزغ نجم نحس جديد فى سماء صفاء اكتشفت أنها تعيش في الكذب.
فى أصيل اليوم التالي هاتفها منتصر يستفسر لماذا رفضت الزواج منه ؟
ريثما علم من مُنى رفض صفاء له.
أخذ منتصر يتودد إلى صفاء محاولاً إقناعها والإنتصار بها مستعينا بصفائها وعندما علم بأن رفضها قرار لن يتغير دار هنا وهناك يعكر أخلاق صفاء فى مسامع من حوله لاتدري صفاء إن كان قد نجح أم لا !! وليس آخر همها فشله فى ذلك أم نجاحه.
عندما وجد منتصر أن ليس لها أي رد فعل أرسل لها خطاباً باسم مستعار على أنه صديقة محبة لمُنى (تلوم صفاء على ما فعلته بين منى ومنتصر وكيف لها أن تفرق بينهم وتهدم ذلك البيت الهادىء وكيف لها أن تطمع في أن تتزوج وكيف لها أن لا تدرك مدى قُبحها) ولكن علمت صفاء من الأسلوب والسرد وخط اليد أنه منتصر ليس غيره وانه استعان بطليقها عليها فكانت أذكى مما يظنون.
ولكنها لم تُبدِ أي رد فعل لم تخبرهم بطريقة أو بأخرى أنها اكتشفت أمرهما فكانت أعلى من أن تسقط بين أيديهما وأجمل مما ينبغي ربما أجمل بقدر لا يتحمله القبح أينما كان، لذلك رفضتها الأقنعة وتحاشتها الكثير من المعاني حولها وتلاشاها الكثيرون ليُخلِفوا خطوات رحيلهم على أيامها فبكتهم عينها أمطاراً غسلتها فإزدات جمالاً.
أما المؤلم فى الأمر هو مٌنى هو أمر تلك الصديقة حيث أن هذه ليست أول محاولة منها لزج صفاء فى التهلكة من أشهُر ليست بعيدة خابرت مُنى صفاء بأن لديها من يؤنس وحدتها ويطيب جراحها رجل شاعر حساس رقيق يقدس المرأة ولكن برحمة من الله كانت صفاء تكره كل ماهو رجل فرفضت تلك الهدية وأخبرت مٌنى أن الحياة ليست رجلاً والسعادة ليست رجلاً فلا تبتئسي من أجلي فأنا كفيلة بشئوني.
وبعد فترة وجيزة إثر حديث دار بين صفاء وصديقة أخرى علمت صفاء أن ذلك الشاعر الحساس الرقيق ما هو إلا كاذب بالوعة نساء يمتلك مطعماً يُسقى فيه خمراً ويدير بداخله صالة للميسر.
الآن لا مفر من القطيعة الحاسمة لقد قُضىّ الأمر .
وبعد إنقطاع دام عاماً هاتفت مُنى صفاء برجاء فتح صفحة جديدة فى كتاب الصداقة وأخبرتها أنه تم طلاقها هي الأخرى ولمرور عام كان قد اندثر وخمل جرح صفاء فقبلت ذلك واتفقتا على العمل معها فى احدى الشركات وكلما تعرضتا للاستفسار تطلب مُنى من صفاء أن تتولى هى تلك الأمور والتواصل مع زميل لهُما وكانت صفاء تفعل ذلك كُلّما عاقها أمر تذهب وتستفسر ولكن ماوراء ذلك هو أن مُنى تريد فقط أن تختبر أخلاق وقلب ذلك الزميل وما كانت صفاء إلا دُمية فى يد مُنى ريشة فى مهب أمانيها.
وعندما واجهتها صفاء بما تشعر لم تنكر مُنى وتعذرت بأن قلبها ليس بيدها، لم تُبدِ صفاء أى رد فعل سوى أن دفنت رأسها فى جدار الصمت محاولة منها لترميم ذاكرتها وأشلاء عمرها.
صفاء كانت تبيع الورد فى مدينة خالية من الحب لم تبكِ صفاء على سقوط الأصحاب فى عينها بل تبكِ قلبها الذي طالما خذلها ولايكف ويداوم السمو بالكثيرين عن مقاييسهم الحقيقية.
التعليقات