اشتقت للذي أنا منه والذي كان كالجبال تسندني فبقربه لم تكن الأيام تهزمني.
اليوم ذكرى وفاة أبي الخامسة والعشرون قررت في ذكراه أن افتح صفحة من صفحات الصندوق المغلق.
كالعادة أيقظني صوت عربات الغداء والمضيفات من إبحاري في ذاكرتي، وبعد الغداء بفترة وجيزة من الوقت أعلنوا هبوط الطائرة ووصُولنا أرض الوطن وإستوقفني شوق مرتعد أن لا أجد أبي وأتى بي من شرودي نسمة هواء دخلت علينا عندما فتح باب الطائرة من عبير النيل فترورقت له عيناي وكأني أرد على النيل تحيته التي ألقاها عليّ في تسلل من باب الطائرة فهذه أول رحلة لي إلى مصر منذ أن غادرتها منذ ثلاث سنوات، نزلنا من الطائرة وكانت خطواتي متلاحقة وجلة يثقلها الخوف وصلنا صالة الأمتعة وأنا ما بين شرودي ورجفتي وهذيان قلبي خرجت بعينان متلهفتان باحثتان عن أباها عن مرساها بعد إبحار طويل في بحر غربة مالح لايصلح للعيش، ولكني وجدت الجميع إلا أبي!
مات أبي.. بل مُت أنا وفارقتني الحياة ومات معي ومعه كل شيء!
ظللت أجول أرجاء المطار رأسي بلا هوية أفكر في كل الأشياء بلا منطق فلا أصل لشيء، صوتي الموجوع لا يسمعه أحد وكأنه فراغ بين إصبعين ظل خيال أبي يلوح ليّ يشوش عليّ الطريق وكلما رأيته يبتعد ناديته لا ترحل، أبي إنتظر أو خذني إليك، كنت أنظر ولا أري أبحث عن من لا وجود له! هذيان رأسي يؤروقني وضوضاء قلبي تزعجني وإذا (ببابا صادق خالي) لملم أجزائي بين ذراعيه فأجهشت في البكاء بين يديه وأخذ يحنو على اليتم الذي إعتراني وإحتضن وحدتي حتى أن وصلنا إلى السيارة حيث أنها ليست سيارة أبي ولا من يقودها أبي وكأن القدر يقدم ليّ البراهين على وفاته بعد كل هذا الهروب فلقد خزلني أبي وتركني وحيدة عزلاء في حلبة الحياة!
ثبتُّ نظري خارج السيارة أريد أن انفرد بنفسى بوحدتي بقلبي أريد أن أنسلخ من كل هذا الوجع ومن واقعي، ومن ثمَ وصلنا بيت أمي وأخوتي فخفت الأسرة كلها للقائي في باحة السُلم فكنا نسكن الدور الثالث من إحدى العمائر السكنية إرتميت في أحضان أمي فتصافحت قلوبنا ومكثنا في عناق طويل وجدت فيها ريح أبي، بعد وهلة استقر بنا المكان وعم الصمت وثرثرت العيون دون دمع لقد تخطى الألم الدموع.
أحضرت أمي لنا جميعاً عشاءً شهياً طيبته يد الأم وظلت جالسة طوال الوقت إلى جواري تملأ عينها مني وتنتقي لي بيدها ما أطعمه بل تطعمني بيديها أنا وابنتي كأنني طفلة رضيعة وكأنها تطمئن إلى أن تنزل اللقيمات في جوفي وتملأ بطني أنا وابنتي، ورغم إلتفافهم حولي كان يشعرني بالدفء، لكن عيناي كانت تبحث عن أبي وكأنه سيشرق علينا من إحدى الغرف بإبتسامته المعهودة أو سيخرج لنا من المطبخ بنوع جديد من الطعام من صنع يده فكنت أبتسم لطيفه وعيناي تملأها الدموع وكلما شعر بي إحدى إخوتي أو أمي يهدهد على الوجع الذي يملؤني فيضمنا الألم في قيد واحد، فيفلت أخي عماد أو أخي إبراهيم من هذا القيد فيداعب أحدهم رؤى أو يخوض الآخر في حديثٍ مختلف حتى لا يطفو علينا ظلام الحزن، تسللت من بينهم إلى غرفة أبي وجلست على طرف سريره أبحث عن آثار وجوده وبقايا ضحكاته في فضاء الغرفة، مررت بأصابعي على كل ما لمسته يداه فتحت خزانته حيث تركت أمي كل حاجيته القديمة كل شئ في مكانه عدا هو.
ثم التقت عيناي بعيون أمي المتعبة فثرثرت أعيننا ما مر بكلانا وبقيت الكلمات معلقة في الهواء ترن في أذن كلانا بلا صوت وعندها أنذرت دموع أمي بإنحدار قريب، لقد أوشك البكاء أن يكون نشاطها الوحيد، فأحسست بالعبرات تخنقني لكني احتسيتها خوفاً على صحة أمي.
قضيت مع أمي يوماً نعمت فيه بالحنان، حولت أمي فيه جدب المعيشة إلى خصباً لا يعرف طريقه إلا قلوب الأمهات.
التعليقات