شغَّلت موسيقاها الحالمة، أخذت في الرقص على إيقاع خلوتها التي تهرب فيها من الحياة الباذخة الحزن؛ لتنسج من خيوط الفجر أحلام المساء، فتحلق في سماء الخيال كأنها إنسان آخر لا يعلمه أو يعرفه أحد.
اعتادت "أحلام" مناجاة القمر في خلوتها، حتى إن كان غائبًا، تشكو إليه الحبيب الذي لا يأتي. وعلى الرغم من تيقنها من أنها تنتظر السراب؛ فإنها ترى في ابتسامة البدر الأمل في قدومه ليؤنس حياتها التي تعج بما لا تشتهي.
تأمل أن يأتي يوم ويدق فيه ناقوس حلمها بالهبوط على أرض الواقع، تقتنع أنه في يوم ما سيرسله إليها القدر على متن النجوم وطيات السحاب، فهو من يسكن وحدتها وقلبها، تنتظر وهي على يقين أنه في ركن ما من أركان الكرة الأرضية، يصنع لها فُلكًا من النجوم، ينتظر فقط أمر الله ليطرق شُرفتَها بفُلكِه المرصع بلآلئ النجوم ويأخذ بيدها لتستوي على مَتْنه ليُبحرا إلى السماء ويُجاورا القمر.
قلبها يثق تمام الثقة أنه حتمًا سيأتي وتغلق عليه جفنيها، فتأسِرَهُ داخلها ليبدد الظلام الذي يسكُنها، لكنها تخشى عِقدَ العمر الذي ينفرط حَبة تلو الأخرى، تخشى أن تلدغُها عقارب الساعة فتُسَرطِن فيها الأمل.
"أحلام" لا تَحلُم إلا بحُلُم واحد كل مساء، تَحلُم بالحب الذي يأتيها كالموت بغتة، تَحلُم بأن تنظر إلى حبيبها فترى عينيه تعكس صُورتها كأنها تَتَفشَى داخِلُه، ثم يَغمِض عليها عينيه ليحتويها من دون أحضان.
تستجدي كل ليلة لقاءها الأخير مع "حازم" في ذلك المطعم الساحر الذي تضيئه الشموع، وتعلو في أوصاله موسيقى الحب مع همسات العشاق، كان لهما في ذلك المكان ليالٍ وحكايات، تسترجع حتى الطعام الذي لا يزال مذاقه في فمها، تستجدي قدومه الآسر.. رجولة شامخة في تواضع باهر، تسترجع العَبق الذي كان سلاحًا من أسلحته، لقد أصبحت كائنًا مُحتّلًا، وهو وحده من يملك خيوطها ليُسيرَها كما يشاء، في كل لقاء بينهما تزداد رجولته طغيانًا، وتزداد أنوثتها هَذيانا.
بين الفينة والأخرى؛ تذهب إلى المطعم نفسه لعلها تنعم بلقائه ولو حتى مع أخرى، ولكن من دون جدوى، لقد حزم "حازم" أمتعة قلبها ورحل.
"حازم" مُعيد في كلية الآداب، و"أحلام" طالبة في السنة الرابعة في الكلية نفسها، وبين قدومه الساحر وانصرافه المبكر.. أصاب "أحلام" وابل الحب.
"أحلام" تُساير الحياة وتواظب على فروضها تجاه نفسها وأسرتها المكونة منها وأُمها فقط. تُشارك ست الحبايب أنشطتها على أكمل وجه، تؤدي عملها مُدرسة بكفاءة عالية، بعد أن حصلت على التعيين في إحدى المدارس الخاصة فور تخرجها.
كأن "أحلام" شخص آخر لا يتألم، بل وتحسدَها صديقاتها المتزوجات على حريتها؛ لأن الرأيَ رأيُها والخيار خيارها، فعندما تلتقيهن في العمل أو حتى في أحد النوادي أو في المولات، لا تسمع منهن إلا عبارات الحسد.
ولكن لا أحد يشعر أنها كالفولاذ المُعتم، لا تَشف عما وراءها، تحتفظ بكل الوجع داخلها، تحاول ارتداء الجميع، لكن تخذلها أحيانًا تفاصيلها ومقاساتهم، فعندما تهددها قسماتها بِفَضحِها تفتح حقيبتها وتُخرِج منها كتابًا تَستُر به وجهها لتدفن ملامحها بين صفحاته.
تعود بعد يومٍ طويل مُرهق إلى المنزل، حيث تجد والدتها في انتظارها لتتناولا العشاء معًا على مائدة صغيرة، تحيط بها أربعة مقاعد على يسار حجرة المعيشة، وعن يمين الطاولة في الجانب الآخر من الحجرة (كنبة) كبيرة زرقاء اللون، يحفها من الجانبين مقعدان كبيران من اللون نفسه، وفي مقابلهما تلفاز كبير معلق على الجدار المطلي باللون الأزرق الزهري، أما الجدران الثلاثة لباقي الحجرة؛ فعليها نقشات صغيرة باللون الأزرق والأبيض، ويتوسط الحجرة الكبيرة طاولة زجاجية على سجادة كبيرة تترنح ألوانها بين درجات الأزرق تكسو أرض الحجرة.
بعد أن ينتهي العشاء؛ تسرد ووالدتها حكايات دارت خلال اليوم، تنصت "أحلام" إليها باهتمام عن أحوال الجيران ومَنْ تشاجر ومَنْ تصالح، وماذا حدث في السوق، وماذا حدث في المتجر، حكايات تتكرر يوميًا، لكن تسمعها "أحلام" باهتمام حتى لا تُشعر أمها بالوحدة، تستأذن أحلام لتدخل غرفتها حتى تخلد إلى النوم.. ففى انتظارها غد مرهق.
تدخل "أحلام" غرفتها حافية من جميع أعباء الحياة، وتنتعل أحلامها، فيقذفها حلم إلى حلم، وأمنية إلى أمنية، وأشد ما يرهقها أنها من الذين يُكمل ليلهم نهارهم وتُتَمم يقظتهم أحلامهم، تتَكْئ بظهرها على وسادتها، وتتقاسم معها حديث المساء. فمن منا لم يشكُ جرحه إلى وسادته؟!
الليل والوسادة وذكرياتها.. مفردات تجتمع ليلًا لتعيد إليها أوجاعها.. أحلامها التى أضاعت النهار في محاولة نسيانها، لكن النسيان أناني يختار الأشياء التي يريدها هو فقط.
تمسك بجوالها كعادتها كل ليلة لتعيد قراءة رسائله، فقد سمعت وقرأت منه أعذب ما سمعت، وقرأت في الحياة، لقد كان أول خيط صُبح أشرق في عمرها:
(أحلام.. أحبك ولا أستطيع الحياة من دونك)...
(أحلام أريدك أنت فقط من كل هذه الدنيا)...
(أحلُم بيوم نجتمع فيه تحت سقف واحد).
وساقتها هذه الرسالة إلى ذكرى "قُبلته الوحيدة" لها حين مرت أنفاسه بمحاذاة أنوثتها، حتى ألقى القبض على شفتيها وتركها في غيبوبة عِشقية، فهو لم يهب لها قُبلة.. بل وهبها شفتين، فقبلة لم تكن لها شفاه..
ومن رسالة إلى رسالة ومن أرق إلى أرق.. حتى وصلت لتلك الرسالة:
(أحلام.. أعتذر عن كل ما بدر مني من إهمال.. أرجوكِ شوفي حياتك.. عندي الكثير من المشاكل ولا وقت لدي للحب الآن.. لا أريد أن أتكَبد ذنب انتظارك.. اتركيها على الله.. لو كان في نصيب سيجمعنا الله)...
تقرؤها وتَبكيها كل ليلة.. كأنها تقرؤها للمرة الأولى، وتتذكر أنها أرسلت له بعدها مرارًا، لكن من دون رد.
لقد ثكلها الحب، ورغم ذلك ما زال قلبها يطوف كل مساء في رحابه خاشعًا، تحلم بورُود الهوى، وتَغفو في جَنَان العشق، تحتضن الوسادة التي ترى فيها صورته، وتضع الأخرى خلفها كأنها تصنع من الوسادتين رَحِمًا يضُم وحدتها، وتُشهد مساءها على ليالي الانتظار الطويلة، التي رغم طولها لا تتسع لتنهيدة واحدة من صدرها.
تظل هكذا في هدوء عالمها الخاص، عالمها الذي لا يفهمه إلا هي، كأنها في الليل شخصٌ آخر غير تلك الدَءوب الباسمة في النهار.. وكل مساء تتساءل:
أأنا نفسي؟! أنفسي أنا؟!
أنا ونفسي لن نفترق.. ولكننا لن نلتقي أبدًا..
أغلقت أبواب قلبها في وجه كل طارق يُريدها، فلم يعد لديها قلب كي تهبه لأحد، لقد دفنت قلبها بين أضْلُعه، لم تعد تملكه.. لا تريد أن تصبح زوجة عزباء، ولا أن تنحر عذريتها فلا تنال منها إلا دمًا وقتيلة عذراء.
هدوء وصمت وقلم.. تلك هي مراسم انتظاره.
تأبى أن تفقد الأمل، فنحن نعيش داخل آمالنا، فإذا اندكت فنحن كالنمل الشارد في الشتاء العاصف.
وعندما يشتد إلحاح أمها وصديقاتها في أمر زواجها.. تتعذر بمستقبلها المهني وأنه لم يحن الأوان بعد.
تحدث نفسها في صمت.. ليس لأنها لا تريد أن تبوح.. ولكن في غيابه تتوقف الكلمات.. حبيبي لا يُعادله حبيب وما لسِواه في قلبي نَصيب.. حبيبٌ غاب عن شخصي وعن عيني ولكن عن فؤادي لا يغيب.
هدوء وصمت وقلم تلك هي مراسم انتظارك!
التعليقات