وجدته أشبه بالقط البري خلف الأسوار السبعة، الذي كلما رأى غريبًا؛ كشر عن أنيابه ونفش جوارحه استعدادًا للهجوم.
كانت طفولته من النوع الذي يتعذر على الإنسان أن ينساه، فلم تكن طفولة عادية بلهاء تمر أيامها على رأس الصغير فلا تترك فيه أثرًا.
"وحيد"، أكبر إخوته، زحف وحيدًا إلى أوروبا ليتمكن فيما بعد من عمل "لم شمل" لأسرته المكونة من أب وأم وإخوة ثلاثة، لم يخشَ المصاعب، فلقد نجا من كثير من المهالك، وهو ضعيف ليس على جناحه إلا الزغب وحده، فكيف يرتاع وهو في الخامسة عشرة من عمره.
مشى جلال الموت إلى قلبه الصغير، ولم يكن حينها يعلم معنى الموت ولا معنى الحياة، ولكنه يحس بالانكسار في كل مكان، من صراخ ثكلى على أبنائها أو عويل أرملة على زوجها إلى آخره من ألوان الحرب القاتمة، لا حزن مثل حزن الصغار، آلام يدركونها بالغريزة وحدها ولا يستطيعون الإفصاح عنها، لكن نراها في شحوب ملامحهم لتخبرنا بأوجاعهم.
كان أبوه قاسيًا، ظروف الحرب بدلت أحواله؛ فأصبح كثير الهواجس، لا يعدو أن يكون حزمة من الأعصاب معظمها تالف، أما أمه، فكانت أبجدية من الحب بكل ألوانه.
نجا "وحيد" من رحلة الموت ووصل إلى أوروبا ليتنفس الصعداء، أسلم نفسه للشرطة كلاجئ، وتم ترحيله إلى المعسكر الرئيسي للاجئين، وبعد أن تم التحقيق في صدق هُويته وغايته؛ بقى في المعسكر ولم يستلم مسكنًا لصغر سنه، بدأ بعدها تقديم طلب "لم شمل" لأسرته، والتحق بمدرسة لتعليم اللغة، لكن رغم استقرار أموره، كان صباحه مثل مسائه، داكنا مكفهرًا، ظل على هذه الحال إلى أن صدر القرار بالموافقة على "لم الشمل"، فإذا بثغر الحياة يفتر عن ابتسامة.
في يوم من أيامه الدراسية؛ دار حوار بينه وبين أقرانه عن أحداث العصر، وتطرق الحديث إلى الإسلام والعنف، وتطاول في أثناء الحديث أحد زملائه على الدين؛ فاندفع "وحيد" كالملسوع وطرح زميله أرضًا بعد أن لكمه من الضربات ما يكفي لفقد وعيه ورقوده أسبوعين في المشفى، تدخلت الشرطة وقبضت على "وحيد" لعنفه الزائد.
تم التحقيق معه، حيث يوجد نوعان من التحقيقات، الأول اجتماعي والثانى جنائي.
أما الاجتماعي؛ فهو بحث في حالته الاجتماعية للبحث عن أسباب عنفه، والثاني عن الواقعة ذاتها، بعدها عُرض على محكمة الأطفال التي تتكون من قاضٍ واحد، حكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر مع العرض على إخصائي نفسي لدراسة حالته.
أدخل الحُكم اليأس على نفس "وحيد"، وأحس بأنه غريب طريد في هذا العالم، لقد اصطلحت عليه الهموم والأحزان، وتغلغلت في قلبه غربة لم يجد عليها أحدًا من الناس مواسيًا أو معينًا.
ذهب "وحيد" إلى "دار الأحداث"، وكانت تتكون من عدة أقسام؛ قسم استقبال للمقبوض عليهم على ذمة القضية، وآخر للمحكوم عليهم بأقل من عام، وأخير للمحكوم عليهم بأكثر من عام، وتلك الأقسام تنقسم بدورها حسب الأعمار.
كل قسم كان يتكون بيت للطلبة، به غرف عديدة مصطفة في الطابق العلوي، أما الطابق السفلي فبه غرفة معيشة كبيرة بها تلفاز كبير وثلاث كنبات كبيرة جلدية سوداء، تتوسطها منضدة صغيرة ومكتبة تحتوى على ألعاب ورقية مختلفة من كروت (شطرنج ـ طاولة ـ دومينو...) وأيضًا ألعاب إلكترونية (بلاي استيشن، إكس بوكس، وي...) إلى أخره من تلك الأنواع المختلفة، وفي يسار الغرفة طاولة طعام كبيرة تحتوي على عشرة مقاعد، وعليها طبق به أنواع مختلفة من الفاكهة، أما المطبخ؛ فهو مفتوح على يمين غرفة المعيشة، ويوجد بها حديقة خلفية للجلوس في الهواء الطلق عند الظهيرة.
قطن "وحيد" في قسم تحت الثامنة عشرة مع المحكوم عليهم بأقل من سنة، لكل منهم غرفة خاصة بها سرير ومكتب وتلفاز صغير وحمام.
كان يستيقظ في الصباح في تمام الثامنة، يرتب غرفته ويستحم ويتوضأ ويبدل ملابسه ويتناول إفطاره ثم يذهب للمدرسة التي كانت في المبنى المجاور، ثم يعود في الثانية عشرة ليتناول غداءه حتى الواحدة، ثم يذهب للمدرسة مرة أخرى ليعود في تمام الثالثة.
يستطيع أن يقرأ أو يشاهد التلفاز أو يجلس في الحديقة الخلفية ذات الأسوار العالية حتى الخامسة والنصف، موعد العشاء، الذي يقوم بإعداده طباخ الدار، أما في عطلة نهاية الأسبوع، فيعد كل طفل لنفسه ما يشاء من طعام بالتعاون مع المرافقين، وبعدها يتم تنظيف المكان حسب جدول يوزع من خلاله العمل على الأطفال والمرافقين، فكان لكل طفل رائد من إدارة الدار ليكون مسؤولا عنه، وللرائد الواحد أكثر من طفل.
في تمام التاسعة؛ يذهب كل منهم إلى غرفته يقرأ أو يدرس وينام، يُسمح لأهليهم وذويهم وأصدقائهم بزيارتهم يوميًا حسب موعد محدد، ويسمح لهم بمهاتفة من يشاؤون طالما لا يعيق ذلك مسار القضايا، يسددون ثمن المكالمة لإدارة الدار، يتم ذلك من التليفون العام للدار، فلا يُسمح بالهواتف النقالة في الدار.
يذهب للرياضة المختلفة من سباحة كرة قدم وكرة سلة وصالة بلياردو وكرة طاولة إلخ... مرة بالأسبوع، ويذهب أيضًا للسينما مرة كل نهاية الأسبوع.
كانت دار الأحداث أشبه بمدينة منعزلة بكل احتياجاتها. يسمح لكل منهم فيها أيضًا بأن يقيم شعائره الدينية، فيوجد بها مسجد وكنيسة ومعبد، فكان وحيد يذهب للمسجد مع أقرانه المسلمين يوم الجمعة لإقامة شعائر صلاة الجمعة، ويسمح له إثر ذلك بالخروج مبكرًا من المدرسة لإقامة الصلاة، وسأل وحيد بدوره أقرانه عن "رمضان"؛ فأخبروه أنهم يصومون رمضان، وتسمح لهم إدارة الدار بأن يجهز كل منهم إفطاره وسحوره، يحاولون قدر المستطاع أن يجعلوا من دار الأحداث بيتًا ثانيًا، وفي خلال تلك الفترة؛ خاض الاختبارات النفسية التي سيوافي الطبيب بتقاريرها للمحكمة، وقاربت الثلاثة أشهر على الانتهاء.
لكن.. تكالب سوء الحظ على "وحيد"، وتحدد موعد قدوم أسرته، فأصابه ذلك بوحشة رانت على قلبه.
كان "وحيد" يهاتف أسرته يوميًا، ولكن لم يخبرها عن شأنه شيئًا، وكان يرجو الله أن يخرج قبل قدومهم حتى لا يبتئسوا لأجله، ولكن أراد الله غير ذلك، فأتت أسرته وهو لا يزال في "دار الأحداث"...
أصابه الخبر بحمى جارفة، تضرب حتى الغليان، لا يستطيع أن يحزن أو يسعد...
وصلت أسرته أيضًا إلى المعسكر الرئيسي، وقد أعلمهم المسؤول بأمر "وحيد". فنزل عليهم الخبر كالضربة تنزل على أم الرأس، لقد غادروا سفوح البراكين كي لا تميد الأرض بهم، لكنهم احترقوا بلهيبها هنا من لفحة هذا الخبر.
حددوا موعد للقائه، وقد كان، في اليوم الثاني ذهب أبواه وأخوته طبقا للعنوان، وطبقًا لشرح المسؤول في المعسكر، وصلوا في الموعد، بوابة كهربائية كبيرة أمامها جهاز (انتركم)، ضغطت "مريم" على الزر الذي أمامها، وأخبرت الموظف تحت وطأة الحزن أنهم أتوا لزيارة ابنهم، فتحت البوابة على باحة خضراء في آخرها بوابة أخرى فُتحت عند قدومهم، أعطوا هويتهم جميعًا للموظف، تركوا حقائبهم وجوالاتهم في صندوق الأمانات لحين انتهاء الزيارة، ثم مروا على بوابة الأمان لكشف ما إذا كان بحوزتهم أشياء ممنوعة، ثم اصطحبهم مرافق آخر من الدار، وفتح أمامهم بابًا تلو الآخر بكارت الأمان الذي يحمله المرافق.
أبواب عدة وممرات طويلة ضيقة أشعرتهم بالاختناق والوحدة رغم وجودهم معًا، ورغم سيرهم بجانب بعضهم الآخر، كانوا أشبه بيدين في جسد واحد، لكن لم تصافح إحداهما الأخرى، حواجز سبعة اجتازوها بخطى يعتريها الوجع، إلى أن أشرق عليهم "وحيد" من خلف الباب السابع؛ فتكالبوا عليه بعد لحظة صمت رَوتها الدموع، وظلوا هكذا بين ألم وفرحة ودمعة وابتسامة وعتاب وهدهدة إلى أن انتهت الزيارة بتضرعهم إلى الله أن تمر الأيام القلائل على خير ليكتمل لَمّ شتاتهم.
التعليقات