منذ شهور عدة تدور الآلة الإعلامية للإعداد لرمضان بفيض من الأعمال الفنية بلغ عددها هذا العام 22 مسلسلا مصريا، فيما تبذل الجهات المسئولة كل طاقتها لتوفير أكبر كميات من الأطعمة، وتخصص الأسرة المصرية نحو ثلث ميزانيتها السنوية لرمضان فقط، بجملة نفقات تبلغ 35 مليار جنيه ، ليتحول من شهر للصيام والقيام الى موسم للطعام والمسلسلات والأفلام فيما يشبه خطط ممنهجة لاختطاف شهر الصوم من أجوائه الإيمانية الى حالة هلامية تجعل الصائم الغلبان دائما حيران وحاله يشبه الأيتام على موائد اللائم!
زادت وتيرة هذا الاختطاف خلال السنوات القليلة الماضية ضمن النهم المسعور لتحويل كل مناسبة الى بزنيس بما في ذلك تحويل مسار العبادة من قيم تدعو إلى ترشيد الانفاق وربما الإحساس بجوع الفقير في رمضان، الى مناسبة للتبذير، ومن مدرسة لتدريب النفس على كبح الشهوات إلى موسم لفتح الأبواب لها على مصرعيها وبخاصة الطعام ، عبر آلة رهيبة من الدعاية والمهرجانات التسويقية التي تحاصر الأسرة في علاقة طردية غربية بين الصوم الورع والاستهلاك الشره!
ويعتبر رمضان، الفاتورة الغذائية الأعلى طوال العام بمصر، حيث يتم خلاله استهلاك 30 مليار رغيف عيش، و30 الف طن لحوم و 70 ألف طن دواجن و40 ألف طن فول، لذا فإن جملة انفاق المصريين في رمضان يوازى 35% من إنفاقهم على الغذاء في العام بحسب ما ذكره الباحث الاقتصادى، علاء حسب الله عضو مجلس إدارة الجمعية العلمية للصناعات الغذائية، والأخطر من ذلك ان 25% من غذاء رمضان يلقى بسلة المهملات.
وهنا تجدرة الإشارة الى مبادرة ( حفظ النعمة) التي انطلقت في دولة الإمارات منذ عدة سنوات برعاية الشيخة فاطمة بنت مبارك الرئيس الأعلى لمؤسسة التنمية الاسرية بأوظبي والتي تستهدف جمع الاطعمة التي كانت تهدر خلال الافراح والمناسبات والولائم وإعدادها بشكل ملائم ولائق لتوزيعها الى المحتاجين سواء من الاسر أو التجمعات العمالية، قد انقذت بالفعل ملايين الاطنان من الاطعمة السليمة التي كانت تلقى في سلال القمامة.
ولدينا جمعيات يمكنها تعميم هذه التجربة بخاصة وان مصر تعد من الدول الأعلى في العالم من حيث استهلاك الطعام ، والعجيب انه يقابل ذلك ارتفاع معدلات سوء التغذية لدى الأطفال بمصر بنسب تتراوح بين 20 و30%.
كل ذلك يستلزم حملات قوية بجميع وسائل الإعلام لتخفيض الاستهلاك خلال رمضان ولكن للأسف يحدث العكس ، فالإنفاق والتبذير في رمضان لا يقتصر على غذاء البطون فقط وإنما يمتد الى ما يفترض أنه غذاء العقول، ويا ليته كان غذاء صحيا، يجعل المتلقى يراجع نفسه خلال شهر العبادة او يدعم القيم الإيجابية التي يرمز إليها الصوم ، وإنما على العكس وكأنه هناك خطة ممنهجة لاختطاف رمضان بأجوائه الإيمانية من العبادة وقراءة القرآن، الى الإلهاء في مسلسلات معظمها تراجعت قيمتها، مقارنة بأعمال فنية على مستوى رأفت الهجان وليالي الحلمية والمال والبنون. والعجيب انه يتم تخصيص مبالغ هائلة لهذا الغرض، فقد بلغت الميزانية الإجمالية لمسلسلات رمضان 2021، قرابة مليار جنيه مصري. و نشرت تقارير صحفية ما سمته "القائمة الكاملة لأجور الممثلين والممثلات في دراما رمضان 2021"، دون أن تشير لمصدر المعلومات، حيث تراوحت قائمة الأجور، بين 45 مليون و 20 مليون جنيه للمثل الواحد نظير مشاركتهم في المسلسل الواحد.
اما الشق الآخر من هذا النهم الاستهلاكي فيتمثل في الترويج له عبر ميزانيات تبلغ جملتها المليارات، وعلى سبيل المثال حصلت ممثلة على ملياري دولار أجرا لها عن إعلان لإحدى شركات المحمول، وذلك غير ما تدفعه الشركة للقنوات الفضائية مقابل بث الإعلان، وهو ما فعلته شركات أخرى عديدة، و تتراوح أسعار اعلانات رمضان هذا العام بين 350 ألف و250 الف جنيه لكل 30 ثانية إعلان فى كل عمل درامي. أما الأغرب في كل ذلك فهو الرقص الذي أصبح التيمة الرئيسية لغالبية الإعلانات. الحقيقة بذلت جهدا فكريا كبيرا لكي ادرك سر العلاقة بين الرقص وشحن رصيد على الهاتف المحمول او شراء شقة أو حتى تناول وجبة مكرونة ولكني فشلت!!
ماذا لو اقتبست هذه الشركات قيم الشهر الفضيل وقامت بعمل خيري يحقق الغرض من الإعلان أيضا فمثلا لو أقامت كل شركة مستشفى ، بحيث يرتدي كل العاملين به أزياء عليها شعار الشركة، لحققت الغرض ويصبح الإعلان لقطات من المستشفى وجميع موظفيها حملين هذا لشعار . الفكرة نفسها يمكن تجسيدها في مشروعات عديدة تخدم الناس الذين تدعونا إعلانات أخرى للتبرع لمساعدتهم!
التعليقات