حين تقع عيناك للوهلة الأولى سيبدو كل شىء رائع وجميل، ترى كل الاشياء منظمة، منزل لطيف وأثاث فاخر، ناهيك من باقات الورود الموضوعة بالمزهريات العتيقة إذ تتناثر بالمنزل كالحوريات التى ترنو إليك فى سكون طرف، وهناك على الحائط المواجه للشرفة توجد لوحة زيتية رائعة مرسومة على قماش كتانى للرسام الاسبانى بيكاسو، إنها بورتريه يمكنك أن تحدق له لفترة ليست بقصيرة دون أن تمل، صممها بيكاسو بفرنسا عام ١٩٣٧ وأسماها لوحة المرأة الباكية، أراها باكية مثلى تماما بل إنها أنا، أما ذلك فكان قلبى المعبق بالحرمان.. لم أتخيل يوما أن اصل إلى تلك النقطة اللعينة، إنها نقطة بداية التحرر ونهاية كل شئ.
فلاش باك..
فى تمام التاسعة مساءا بالاول من يناير عام ٢٠١٦ سقط المهندس عزيز البسيونى من شرفة شقته بالقاهرة على كورنيش النيل من الدور السابع بمشهد يدمى القلوب والأعين ثم بضعة أيام ولحين إنتهاء تحقيقات النيابة، تلقت الأم المكلومة العزاء فى وفاة نجلها المهندس عزيز ، كان عزاءاً مهيباً تقشعر له الأبدان، وبالحديث عن زوجته فكانت صامتة طيلة الوقت تنظر فى ذهول وكأنها فى عالم آخر، وبعد إنتهاء العزاء ولجت الزوجة غرفتها لتغرق فى نوبة بكاء حادة لا مثيل لها كما أنها لم تبكى من قبل، وفجأة تدخل أم زوجها وقد بدا الامتعاض على وجهها قائلة: لازم تعرفى يا هيام إنك قاعدة هنا عشان ولادك وبس يعنى ممكن أرميكى بره فى أى وقت و متشوفيش ولادك دول تانى أبدا.
أدركت هيام أنها حبيسة سجن أبدى لن تضطر للخروج منه بمحض إرادتها، كانت يوميا كل صباح تنظر لتلك اللوحة الزيتية لترى نفسها، كيف تفنن بيكاسو ورسم إمرأة لم يلقاها قط، لم تكن هيام على قدر ولو بسيط من الجمال، تزوجها عزيز لفقره الشديد آنذاك قبل أن يتبدل الحال فهى الوحيدة التى ستتغاضى عن فقره لينتشلها من لقب عانس وتصبح زوجة وأم، لم يحبها قط وكان دائم النفور منها واعتبر أن أولاده منها غلطته الوحيدة، ظل سنوات لا يقترب منها، لا ينظر إلى وجهها..فقط هى موجودة لخدمته ولخدمه أولاده وأمه التى لم تخطئ مرة وتبتسم فى وجهها إذ كانت هى الأخرى تراها الوجه القبيح بالبيت فكل الأخطاء الكونية منسوبة إليها هى السبب فى عصبية زوجها المفرطة وعلاقاته المتعددة بالعاهرات، هى السبب فى رسوب أبنائها بالمدرسة، هى السبب بالملح الزائد فى الطعام، ظلت هكذا طيلة سنوات لا يرون منها شئ يجدى نفعا ولم تحظى منهم ولو بكلمة طيبة، كم شاهداها طفليها عبر فتحة باب غرفتها الضيقة وهى تتوسل لزوجها أن يقربها ولو لمرة، لم يدركا على أى شئ تتوسل ولم يفهما تلك النيران التى تتقد بقلب "أمهم" يوميا وهى تستسلم طواعية لتلك الجروح الغائرة والحرمان القاتل.
كانت لهيام صديقة تدعى "حسناء" وكانت حقا اسم على مسمى فحين تطلع إليها تجدها حسناء الشكل والمظهر، تمتلك حسناء متجراً كبيراً أو ما يطلقون عليه "بيوتى سنتر للسيدات" ذلك المكان الذى تدخله السيدات بشكل وتخرجن منه بشكل آخر تماماً، إن حسناء نمط آخر من النساء ليس من السهل أن تتعرف على ما يدور برأسها إنها بارعة فى إستقطاب النساء لمتجرها وتسميم أفكارهن عن كل الأفكار الحياتية، استطاعت خلال فترة قصيرة أن تتقرب إلى هيام وتستحوذ على عقلها للحد الذى جعلها تُخرِج من هيام ذلك الشيطان الماكث منذ زمن وأقنعتها أنه حان وقت خروجه، مسكينة هيام ومذنبة معاً إذ كانت ضحية مجتمع بأكمله ولكن لايعنيها هذا أن تدس المخدر بفنجان الشاى قبل أن تقدمه لزوجها "عزيز" وهو فى الشرفة ليسهل عليها دفعه وإسقاطه منها إنتقاماً منه، ولم يكن من المتوقع أن يكون شهود الإثبات هم أولادها الذين خرجوا عن صمتهم بل ذعرهم بعد الضغط عليهم، ليس هذا فقط الذى أثبتته تحقيقات النيابة العامة، تم ثبوت جريمة القتل الأخرى لعشيق صديقتها حسناء، تعاونتا سويا لقتله ثم قامتا بتعليقه من رقبته بين الأشجار بإحدى القرى المهجورة بمحافظة الغربية حيث مسقط رأس حسناء، تُرى هل يتحول الانسان لهذه الوحشية لمجرد ضغوطات مجتمعية غير قابلة للتعديل؟ والحكم متروك لمن؟
بعد انتهاء التحقيقات تم الحكم على هيام وحسناء بإحالة أوراقهن إلى فضيلة مفتى الجمهورية.
التعليقات