بعد أن حظرت أستراليا دخول الأطفال دون سن 16 عاما منصات التواصل الاجتماعي، يتطلع العالم بشكل عام ومنطقتنا العربية بشكل خاصة إلى اتخاذ قرارات مماثل في إطار السعي لسد الفجوة بين الحق في الاتصال وحماية خصوصيتنا وبراءة أطفالنا.
يعتبر القانون الأسترالي الذي يفرض غرامات تصل إلى 49.5 مليون دولار على الشركات التي تدير هذه المنصات في حال خرقها حظر دخول القاصرين، خطوة رائدة على المستوى العالمي. هذا القانون يُدرس حالياً بعناية في العواصم الغربية. ومن المهم أن تتخذ العواصم العربية خطوات مماثلة، لمواجهة القلق المتصاعد بشأن الأضرار النفسية والجسدية التي تسببها الخوارزميات التي تستغل نقاط ضعف الأطفال لتوليد الإدمان الرقمي لديهم.
ويُعد هذا القانون الذي بدأ تطبيقه يوم 10 ديسمبر الجاري، خطوة متقدمة في سجال ممتد تخوضه نخبة من المفكرين والكتاب وعلماء الدين والاجتماع والحقوقيين، من أجل حوكمة شركات التكنولوجيا العملاقة، وقد كان لي الشرف في المشاركة فيه، دافعا عن حقنا في الاتصال بدون وصاية من هذه الشركات "العمالقة الكبار" بحيث نحافظ على حياتنا وتواصلنا كبشر لدينا خصوصيتنا الشخصية والثقافية وليس كزبائن للشركات التكنلوجية والاقتصادية، ولا كأرقام في قوائم المبيعات!..عبرت عن هذه المعاني في كتاب جديد يصدر قريبا بعنوان:(السلطة السادسة وتحديات العصر الرقمي) وقد طمأنني أن يأتي القانون الأسترالي الجديد، منسجما مع ما دعوته إليه في الكتاب، ضمن إجراءات ومطالبات أخرى، لامجال لذكرها في هذه المساحة.
إن مبادرة أستراليا، وتوصيات البرلمان الأوروبي برفع سن الحماية، تدفعنا للتساؤل: متى تتبنى الدول العربية سياسات تنظيمية حاسمة لصيانة مجتمعاتها الشابة؟ بخاصة وأن الشباب والنشء تحت 25 سنة، يشكل أكثر من 50% من السكان بالوطن العربي مما يضاعف حجم التحدي، ويؤكد حاجتنا الماسة لاتخاذ مثل هذا القرار، لعدة أسباب، أبرزها: أولا: الاتهامات الموجهة لمنصات التواصل باستخدام آليات لجعل ملايين الأطفال يعتمدون عليها بشكل دائم، مما يتسبب في مشاكل متنوعة، منها: قلة النوم واضطرابات الأكل، والاكتئاب، وانخفاض التحصيل الأكاديمي، واتجاه الكثير منهم الى ما يسمى بـ "الاختلال الوظيفي" في استخدام الأجهزة والهواتف الذكية، لدرجة تصل الى الإدمان الرقمي. ثانيا: حماية القيم الاجتماعية والأخلاقية، حيث تواجه مجتمعاتنا العربية خطر اختراق ثقافي وقيمي منظم عبر محتويات لا تتوافق مع الثوابت الاجتماعية والدينية. ثالثا: مكافحة الاستغلال التجاري، لمنع توظيف ضعف الأطفال، لزيادة الإيرادات من خلال الإعلانات الموجهة لهم أو دفعهم للتحول إلى مؤثرين صغار (Kidfluencing). رابعا: ضرورة حمايتهم من محتوى الذكاء الاصطناعي الضار، مما يتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة لمعالجة التحديات الأخلاقية والقانونية التي تفرضها أدوات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك "التزييف العميق" (Deepfakes) وتطبيقات الصور العارية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، ولهذا السبب حظرت إيطاليا على الأطفال تحت 14 عاما الوصول لأدوات الذكاء الاصطناعي دون موافقة الوالدين.
لضمان أن تكون البيئة الرقمية آمنة للنشء، ينبغي الا يقتصر الأمر على منع استخدام المنصات لمن هم دون الـ 16 عاما، وانما يمكن للدول العربية تبني استراتيجية متعدد المستويات، تتضمن إجراءات مرنة، منها: السماح باستخدامها لمن هم دون هذا السن بموافقة واضحة وموثقة من الوالدين، وإلزام المنصات بإدخال أنظمة تحقق من العمر دقيقة وتحافظ على خصوصية القٌصر. وحظر الممارسات الإدمانية الأكثر ضررا للقاصرين، وفرض غرامات مالية كبيرة على المنصات التي تقصر في حمايتهم، وإدخال مادة إلزامية في المناهج الدراسة تستهدف تحصينهم ضد التضليل الرقمي، وتطوير منصات محلية وإقليمية للتواصل، تصمم خصيصا لتناسب السياق الثقافي العربي وتقدم محتوى هادفا. وتوفير برامج رقمية بسيطة للأهالي لمراقبة وتنظيم استخدام أبنائهم لمنصات التواصل الاجتماعي، مع إطلاق حملات توعية موسعة لهم. وإنشاء مراصد لاكتشاف المخاطر الرقمية.
وفي جميع الأحوال فإن الهدف ليست فصل النشء عن التكنولوجيا، وإنما إعدادهم لمواجهتها كمستخدمين أذكياء وليس كضحايا سلبيين. وهذا يتطلب من المجتمعات العربية أن تنتقل من دور "حارس البوابة المتسلط" إلى دور "المرشد الحكيم"، فبناء جيل قادر على تمييز الخبيث من الطيب في الفضاء الرقمي هو الضمانة الحقيقية لإكساب النشء مناعة ضد "الخوارزميات" الإدمانية والمحتوى الضار وإعدادهم لمستقبل يحمل وعود التكنولوجيا وفي الوقت ذاته يتجنب سمومها!
التعليقات