بعدما أحدثتُ هذا الدوي الهائل توقف كل شيئ الزمان والمكان والصور والخيالات، وبعد ثوانٍ وجدتُ نفسي في هذا المكان البهيج، فيا لجمالِ هذا المكان وروعته.
حقاً إنها الشيءُ الموعود الذي انتظرتهُ نفسي ولأجلهِ آمنت واعتنقت وصدقت فأوصلتني إلى هنا، حيثُ الأدواح الغناء وأنهارٌ ذاتُ فراتٍ بديع تسر الناظرين، رباهُ ما أجملها من طبيعةٍ تلك التي تأطرني فقيعانها مروجٌ خضراء مداسها رقيقٌ للغاية و كأنها أرياشٌ حُفت أسفل الأقدام كي تشرب تجشُم مسيرها المضني الذي أنهك الأجساد، كذلك شذاها السارحُ في الأرجاء كأنهُ عبيرٌ تفلت من قيودهُ وغزى بنفحاتهِ أركان كل شيئ، لأن كل شيءٍ هنا يسوقُ لي الترحاب، حفيفُ الشجر وخرير جداول الماء و تغاريد العصافير، فجميعُ ثمار الأشجار هنا يانعة وشكلها شديد الجمال حيثُ تدلت من أوتان أغصانها ناثرةً العبق الزكي وهي تملأ المكان نضارةً وازديان ، يالهُ من طائر سنونو زهي الريش يتطاير من حولي ويتراقص طرباً لقدومي.. لكنهُ مشاكس بعض الشيئ فقد كرر الهبوطَ فوق رأسي وهو ينقرهُ بمنقارهِ الحاد بكلِ عُنفٍ وغضب، ما بالهم صارو سرباً من السنونوات تجمعوا فوق هامتي وكلهم يقصفون رأسي بمناقيرهم الحادة ، ماهذا الترحاب الغريب ، يجب علي الفرار منهم .
الحمد لله لقد ابتعدتُ عنهم ، يالهم من سربٍ غريب ، لقد أدمو رأسي جراء فعلتهم، علي أن أمسح جروحي بماء ذاك الجدول الرقراق المنساب من النهر كي أزيل سيل الدم النازفِ من رأسي.
ما أجملهُ من نهر إنهُ كالتبر المصفى ، و طعمهُ زلالٌ يستعصي على الكلمات وصفه ، ما ألذ مشربهُ وما أنضر لونه ، أيُ نحلٍ صنع نهر العسلِ هذا ، وبحذائهِ ثمة نهرٌ آخر تفوحُ ريحهُ زكاوةً و عبيراً ، كأنهُ خمرٌ استطاب كي ينالهُ الفائزون ، ليتَ ريحهُ لا تبرحُ غيشوم أنفي ، فإذا كان مُستنشقُ هذا النهر كذلك فكيف يكون مشربه ؟
حينما يختلطُ الحلم بالحقيقة و تتمازج الأشياء مع اللا أشياء و يكون تحول المستحيل لواقع ملموس بسرعةِ ارتداد الطرف ، حينها يكون وصف المكان الذي أنا فيهِ قد استوفى حقهُ لأن ثمةَ صوتُ حثيث أقدام جميلة ينحدر من خلفي ، أنثى تتجه نحوي و أنا لما أزل أستمتعُ بعبق نهر الخمر الذي أمامي ، خفتُ أن أستدير نحوها فتتلاشى و يُغشى على ناظريا رؤيتها لأنني قدمتُ إلى هنا كيما أراها و أنامُ هنيئاً في أملوجِ أضلاعها كما ينامُ العصفور في فنن الشجر.
حتى لو زالت كل الطبيعة التي وصفتها من حولي و بقيت هي لرضيت حقا ، فأنا مستعدٌ أن تبقى معي حتى لو حُكم عليَ أن أكون في وديان سقر فقط تبقى معي و بصحبتي رفيقةً و حضناً حنون ....
حينما استدرت و رأيتها شعرت بشيٍ يشبه اللاشعور ! تسمرتُ ببلقعي و أنا أنظر نحوها و هي تُقبل نحوي فاردةً ذراعيها كي تضمني ، كان كلُ وصفٍ عن جمالها غير منصف لأنها كانت أجملُ من ذلك بكثير فهي كسراجِ الشمسِ في مشرقها عندما تصنعُ حُبُكها الفتان ، بجيدها الممشوق و بصوتها الرخيم و بعينتيها الناعستين تجسدت لي تلك الفتاةُ التي وعدوني بها وها قد أصبحت بحذائي ، حيثُ تطوفُ حولها نوى ذراتِ فؤادي و تختلط بمحياها أمشاجُ ألوان مشاعري لأكون حقاً فيها متيمٌ هائم لا يمتلك سوى الخضوع لسحرِ جمالها الآسر.
ألا ترغبُ برؤية وصيفاتي يا سيدي .... قالتها لي و أنا لما أزل متسمرٌ في مكاني ، أمسكتني من يدي ثم ساقتني و مشت كي تُعرفني على وصيفاتها اللاتي سُخرن لخدمتها و خدمتي ، كنتُ كالطفلِ أمشي خلف أميرتي ، حيثُ عرفتني عليهن ، لم أركز بجمالهن لأن شعوراً غريب تسلل لداخلي ، فبدأت تتثاقلُ خطى مسيري وكأن شيئاً ما بدأ يقيد جوارحي ، حتى الريحُ الزكية التي كنتُ استنشقها بدأت تتلاشى عن غزو عرنيني ، وشعرتُ بأن مضغة قلبي ستتوقف فقلت في نفسي أيعقل أن أموت الآن و كيف أموتُ وهنا الموت لا وجود له ، حيثُ النعيم السرمدي و الخلود الأزلي، حتى الشج الذي في رأسي إزداد سيلاناً و أنا الذي نسيتهُ لأني كنت في حضرة أميرتي ، فجأة مدت يدها و مسحت دمي وقالت : يالهم من أطفالٍ غاضبين ، فقلت لها : أطفال أي أطفال لقد كانوا سرباً من السنونوات هاجموا رأسي و أشبعوه نقراً و قصفا ، فنظرت نحوي بعينتين يملئها الغضب وبصوتٍ عالٍ جهورٍ قالت: كذلك اليوم تُنسى ، وفجأة إنهال مخلبٌ شديد الثقل على كتفي و أمسكني بعنف و يداً أخرى شديدة الثقل أمسكتني من ناصيتي ورفعتني بشدة و فجأةً اختفى منظر الربيعِ البهيج من حولي ليحل مكانه منظرٌ مقيت شديد البشاعةِ لا يوصف و بدأت الريحُ النتنة تلفحني و أنا أصرخ خوفا و فزعا كيف تبدل كل شي و استحال النعيم لعذابٍ لا يطاق ، كانت اليد القابضة على ناصيتي ترفعني بألمٍ و عنفُ ثم أخذتني لحفرةٍ مخيفة نيرانها مستعرة و ريحها عفنة و أصواتُ عذابٍ و إستجارة تنبعُ منها و وهمت بقذفي فيها .... فقلتُ لصاحب اليد الغليظة والذي كنتُ لا أراه وصوتي يتوشحه الفزع و قلبي يضنيه الوجع : جُعلت فداك يا سيدي أما من تبيانٍ لما جرى ، كيف أُصبحُ في جنتي لأغدو بعد ذلك في سقر ، فجاوبني بصوتٍ يشلعُ القلوب من شدته وقال : لقد أريتكُ المكان الذي تهيأ لتكون خالداً فيه ، لكنك وقعت في شركِ نفسك الأمارة التي قادها شيطانك الذي حذرناك منه فصممتَ عن الحق أذنيك و أغشيت عن الحقيقة عينيك وليكن هذا جزاؤك فليكن خلودك في السعير ، ثم قذفني في هذه الحفرة المخيفة ، صرختُ مستجيراً بحوريتي التي قتلتُ نفسي كي أراها و كنتُ قبل قليلٍ معها ثم اختفت عني لتترائى لي و هي تنظرُ إليَ من الأعلى و أنا أهوي نحو الحفرة الملعونة ثم قالت : خُلقتُ لتنام في خلدي سرمدا لكنك اتبعتَ هوى نفسك كذلك اليوم تُنسى.... لأسقط أخيراً في الحفرة المستعره ثم أُطبقَ عليها ببابٍ مخيف صوتُ إنغلاقه عذاب فكيف سيكون الآتي..
كان هذا ما يحدثُ في العالم الآخر أما على الأرض ، فكتبت الصحف باليوم التالي عن ذلك الشاب الموتور الذي ترصد لحافلة مدرسية وكان على متنها أطفال حيثُ إقتحم الحافلة و فتح النار على من فيها ثم انتحر ، وأردفت الصحيفة أن هذا الشاب ينتمي لأحد الجماعات المتطرفة التي شرعَ زعيمها لهُ فعل هذا العمل الجبان بعدما أقنعهُ بالجنة جزاءً لفعلته .
التعليقات