امسكته بيدى، كالعادة، قبل أن استنشق روائح الصباح الجميلة، المعتادة على دخول غرفتى على استيحاء من بعض فراغات الستائر الداكنة، وسط ابتسامة وترقب لما سأجده من رسائل وإشعارات، وأحياناً مفاجآت قد تغضبنى وتؤدى إلى توتر، وربما تُدخل الإبتسامة على قلبي ولكني لا أملُّ منه، بل افتقده أحياناً وهو في يدى، وأبحث عنه وهو في أذني.
اهتزّت يدي واعتلت عينى ملامح الاستغراب والاندهاش، لا توجد أى إشعارات من ثمانِ ساعاتٍ ! هل توقف العالم عن نبض حياته وإعلمنا بسكناته فجأة ؟ أسرعت عينى لجهاز البث المعتاد بالواى فاى، وهنا؛ واجهت الحقيقة المرة والموقف العصيب، لا توجد سوى نقطتان مضيئتنان فقط، اختفت ورحلت نقطة البث التى تقدم لي كل صباح ما يشغلنى عن تفصيل حياتى؛ رحلت النقطة الى تجعلنى أسافر لكل العالم وأنا قابعة تحت غطائى وبجانبى كوب القهوة السوداء عديم السكر، رحلت النقطة التى من خلالها أعيش زمن الأبيض والأسود، وأسترجع ذكرياتٍ أتحكم فى اختيارها وأملك وقتى لأسمعها وأشاهدها.
ماذا أفعل؟ وكيف تكون الحياة بدون الإنترنت ؟ رحت أفكرُ وأعصرُ عقلي؛ كيف سأقضي يومي بعد رحيلي من عملي فى الثانية عبعد الظهر كل يوم؟ فقد كان يرافقني فى كل مكان بشقتي، فهو رفيق المطبخ، وكابح الملل ، وحتى إن قررت الجلوس لا أفعل شيئاً؛ لا يكل ولا يمل إلا أن يقوم بتسليتى بأية فيديوهات، سطحية أحياناً؛ ولكنها أفضلُ مهربٍ من كل شيء.
وهنا؛ توقفت قليلاً، ألقى بااللائمة على نفسي وأحاولُ أن اتحدث معها بقليل من المنطق. ماذا كنت أفعل سابقاًً قبل تلك العولمة المتوحشة، والتكنولوجيا الضوئية؟ نعم، كنتُ أقرأ كثيراً وأقضي أوقاتي في تصفح الأخبار من الجريدة مهما تلوثت يدي من حِبرها الأسود، وكنت أجمعُ أنا وأخواتي من مصروفنا الضئيل بعض المال لنشتري كتاباً واحداً يحوز على اهتمامنا جميعاً، لنقرأه تباعاً. كنتُ اجلسُ معهم كل يوم جمعة لنستمتع بالمسرحية بعد الغداء، أو الفيلم الأجنبي الذى كان يملك من المتعة والتشويق ما يجذبنا لنتحدث عنه أياماً عديدة .
واليوم أقف عاجزة أمام إدمانى لجهاز صغير الحجم وعظيم التأثير بما يحتويه، ويملكني ويحوز على رضائي، وأتأفف إذا وجدت بطئأً، ولو ضئيلاً فى إشاراته، فما يحدث وما شعرت به يقترب فعلاً من شعور المدمن، بإحتياجه إلى جرعته التي اعتاد عليها، وما يصيبه من جنون وهياج إذا تأخرت عليه قليلاً، وأجدُ ما انا فيه ليس خطأً ولكنه كارثة فى واقع الامر، فلا يجب أن يستحوذ علينا هذا الجهاز ولا يجب أن تشترينا تلك الإشارات، وعلينا أن نعود لانفسنا وأن نجد ما يشغلنا ونقضى فيه وقتنا ونستمتع بصحبة من حولنا.
يجب أن أحاول وأنتهزها فرصة لاستمتع بحياتى كما يجب أن تكون، ويجب أن أخرج لاتنزه مع صديقاتي، وأجلس مع بناتى نتحدث قليلاً حديث الفتيات، ونتبادل ما نملكه من أسرار نظن لا يعلمها العالم، ونضحك على أنفسنا. بل يجب أن ابدأ بالرجوع إلى قلمي فقد ذبلت يدي من الكتابة على لوحة المفاتيح، فلاعودة إلى القلم الجاف والورق، أكتب خططى لهذا العام، بل لأقول لكم لأجري مسرعة، فأرتب مكتبتي التي أهملتها وصارت تشعر بالوحدة وسط أكوام التراب التى تغطيها، ولاختار كتاباً جديداً لأقرأه، أو قديماً فأستعيد فيه ذكريات أحداثه. نعم هناك الكثير لأفعله وليكن جهاز الريموت قريباً مني ولأتجول بين القنوات، لعلها تنجح فى إثارة إنتباهي بما تقدمه من برامج أو أفلام.
الآن وجدت الكثير مما افعله، وقد لا أجد ساعات تكفي خلال اليوم لإمجاز كل هذا، ولا احتاج إلى جرعتي اليومية من إشارات البث، فقط أؤمن أنني أستطيع، وسأتخلص من سجنه الذهبي، القابعةُ فيه منذ سنوات.
لن أقوم بشحن الباقة هذا الشهر، سأصمد، ولكني لماذا حزينة كل هذا الحزن؟ لماذا لستُ سعيدةٍ بما وجدته من بدائل؟ لماذا أصبحت برفقة الحديد أكثر متعةً بدلاً مِن مَن يملكون دماً ولحماً ؟.
التعليقات