صناعة الإلكترونيات عالميا بدأت في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي بالصمامات الإلكترونية ، ومرت بالترانزستور فى منتصف السبعينيات ، بواقع عشرين ترانزستور في نفس مساحة الصمام الواحد، وبعدها جاءت مرحلة صناعة الدوائر الإلكترونية المتكاملة، ومرت بدورها بأربع مراحل ، هي : الدوائر المتكاملة ذات الكثافة الصغيرة، والدوائر المتكاملة ذات الكثافة المتوسطة، والدوائر المتكاملة ذات الكثافة العالية ، والدوائر المتكاملة ذات الكثافة العالية جدا ، وفيها يصل عدد الترانزستورات في لأكثر من 300 مليون على نفس مساحة الصمام ، وقد انتقلت تلك الصناعة نقلة نوعية بعد اختراع ما يسمى بنظام الرقيقة الإلكترونية، وهو نظام يمكن الشركات العالمية من نظم إلكترونية متكاملة على شريحة واحدة.
ولأنها صناعة تتميز بأنها ذات منافسة عالية ، فإن الشركات العالمية في مجال الإلكترونيات تستثمر من 2 إلى 7% من مجمل إنتاجها ، آي ما يعادل 230 مليار دولار سنويا على البحث والتطوير في هذه الصناعة لضمان قدرتها على المنافسة، فتلك الشركات تتصارع على صناعة الآلات الإلكترونية وهى صناعة تحتاج لاستثمارات ضخمة كانت تقدر بـ 185 مليار دولار عام 2008 ، وكان متوقعا لها أن تصل لأكثر من 500 مليار دولار في 2018.
وعلى الرغم من أهمية تلك الصناعة ، فقد ارتكب نظام مبارك أخطاء فادحة أثرت على قدرة صناعة الإلكترونيات في مصر ، منها صدور قرار بتصفية مركز بحوث الإلكترونيات بالهيئة العامة للتنمية الصناعية، و قيام الشركة القابضة للصناعات الهندسية ببيع حقها بالكامل في شركة تليمصر إلى مستثمرين فشلوا في إدارتها ، و إخراج شركة فيليبس في أوائل التسعينيات من إنتاج الراديو والتليفزيون والأجهزة المرئية والسمعية .
تلك الأخطاء يجب على النظام الحالي بقيادة الرئيس السيسى تصحيحها ، حتى تعود مصر لمكانتها فى هذه الصناعة الإستراتيجية، وحتى يكون في مصر صناعة محلية لهواتف المحمول واللابات توب، والروبوتات، وأشباه الموصلات، وكل المكونات الإلكترونية الدقيقة ، وهى أهداف مشروعة وليس من المستحيل تحقيقها ، خاصة وأن لدينا قلعة فى ذلك المجال ، وهى الهيئة العربية للتصنيع ، فضلا عن المجمع الصناعي الكبير التابع لشركة العربي والذي أقامته الشركة بالتعاون مع شركة توشيبا العالمية ، بالإضافة إلى المنطقة الصناعية بقويسنا لإنتاج الأجهزة السمعية والمرئية والأجهزة المنزلية والأجهزة المكتبية الإلكترونية.
وفى هذه الصناعة ، يوجد مجالات يصعب على مصر المنافسة فيها ، ومنها صناعة البرمجيات فهي صناعة تحتكرها أمريكا سوقها العالمي بنسبة كبيرة، وخاصة في مجال أنظمة التشغيل والبرامج الأساسية ، وهى صناعات تحتاج مهارة عالية في الفكر المرتب والابتكار، وربحية الوحدة الواحدة منها صغيرة للغالية ، وبالتالي تتطلب إنتاجا وفيرا يغطى أسواق داخلية وخارجية كبيرة لكي تحقق الربحية للمنتج المصنع لها.
دخول مصر معترك الصناعة الإلكترونية ، ليس سهلا ، فالمهمة تحتاج لمشاركة الدولة بقوة في تحقيق هذا الهدف ، لأن القطاع الخاص في مصر بطبعه يحجم عن الدخول في مجال الصناعات المتقدمة التي تعتمد على أحدث التطورات التكنولوجية، وإذا دخلها يدخلها للتجميع لا التصنيع، والدولة ممثلة في أجهزتها المختصة عليها البدء الفعلي في تدشين مشروعات لم تعد تحتمل مزيدا من التأخير، منها بناء مصنع نموذجي لإنتاج أشباه الموصلات والدوائر المتكاملة والنظم الدقيقة وتصنيع شرائح السيلكون والخلايا الشمسية و الشرائح الحيوية كتلك التي تستخدم في معامل تحليل الدم.
ذلك الهدف المنشود ، حققته دولة ماليزيا بالتعاون مع بيت خبرة ألماني، وهو معهد فراون هوفر للتكنولوجيا المتقدمة ، حيث استطاعت إنشاء معهد للإلكترونيات أسمته معهد ميموس، وهى تجربة يمكن محاكاتها في مصر ، ويمكن تنفيذ تجارب مماثلة لها ، من خلال تمويل ذاتي ، أو من مانحيين عالميين، وأعتقد أن حالة الاستقرار التي تشهدها مصر منذ ثورة 30 يونيو 2013 ، توفر المناخ المناسب والجاذب لمثل هؤلاء المستثمرين للمساهمة والمشاركة فى هذه المشروعات المهمة.
ولمن لا يعلم ، فإن الدولة المصرية لديها بالفعل دراسة عن مشروع متكامل لتصنيع أشباه الموصلات ، وهو عبارة عن مصنع نموذجي تجريبي، بغرض البحث والتطوير والتصنيع فى مجالات التكنولوجيا المتقدمة والمعلوماتية ، و اعتبرته دراسة إستراتجية بمثابة المفتاح السحري لدخول عصر التكنولوجيات المتقدمة بحثا وتصنيعا ، ولهذه الخطوة في حال تبنيها فوائد كثيرة ، منها تشجيع الاستثمار في مجال الإلكترونيات ، وزيادة احتمالات بناء الصناعة المصرية الذاتية للإلكترونيات الميكرونية والشرائح الحيوية ، وتحويل المواد الخام التي نصدرها بثمن بخس ، إلى سلع مصنعة تدر لمصر عملات صعبة ، فضلا عن أنها تسهم فى زيادة الدخل القومي على المستوى العام ، وتوفر فرص عمل كثيرة تسهم في حل مشكلة البطالة.
ولكي يتحقق الهدف، لابد من تعديل التشريعات المعيقة لتحققه ، ولابد من قيام هيئة التنمية الصناعية بالدور المنوط بها، في هذا الصدد، على أكمل وجه، و كذلك الهيئة العامة للاستثمار، ولابد من تطوير معهد بحوث الإلكترونيات التابع للمركز القومي للبحوث، وتوفير الأموال والاستثمارات اللازمة لتطويره ، ليكون قادرا على التفاعل مع الشركات الإنتاجية في مصر، وقادرا على الإشراف على المشروعات الواجب تدشينها للنهوض بصناعة الإلكترونيات.
وتبقى كلمة أخيرة ، وهى أن تحقيق ذلك الهدف يتطلب منا أيضا ، الاهتمام بالمشروعات الصغيرة والمغذية للصناعات الإلكترونية وتنميتها واحتضانها وتيسير السبل لها لتكون نواة حقيقية للتنمية التكنولوجية في مجال الإلكترونيات والبرمجيات.
التعليقات