اعتراف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، ونقله للسفارة الأمريكية من تل أبيب إليها، قرار سيكون له تداعيات كارثية على القضية الفلسطينية وعلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى المنطقة العربية كلها.
فالقرار أقل ما يوصف به، أنه "أستيكة" تريد مسح كل التاريخ العربى والإسلامى فى القدس، بجرة قلم، على الرغم من كونه تاريخا ممتدا لـ 1439 سنة، وهذا يعد "استهانة ترامبية" بتاريخ العرب والمسلمين، سيكون لها مردود سلبى عليه وعلى أى حاكم لدولة عربية أو إسلامية يدور فى فلكه، بمواقف وتصريحات مائعة ليست على مستوى الحدث، وذلك بسبب مردود تلك الإهانة القاسية على نفسية الشعوب العربية والإسلامية على المدى البعيد.
فليس من المستبعد، بعد اتخاذ ترامب لقراره العنتري، أن تنهار المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية "بين فتح وحماس"، وحدوث مواجهات بينهما، وذلك على خلفية الهوة الشاسعة المتوقعة فى موقفى الحركتين حيال الآلية الأمثل للتعامل مع هذه الخطوة، وهى هوة يتسع مداها للفارق بين المقاومة العسكرية التى تتبناها حماس وبين المقاومة السلمية التى تتبناها حركة فتح، ويرفع شعارها الرئيس الفلسطينى محمود عباس"أبومازن".
قرار ترامب أخطر ما فيه، أنه ينسف حل الدولتين، ويهدف إلى وضع الفلسطينين بكاملهم أمام "خيار أزمة"، بحيث لايكون أمامهم سوى التسليم وقبول الأمر الواقع، الذى سوف يفرضه القرار الترامبى على الجميع، فى توقيت يراه مناسبا، بسبب الأحداث السياسة والعسكرية التى تشهدها المنطقة، وعلى رأسها التقارب العربى الإسرائيلى، سواء فى السر أو العلن، ولعبة التباديل والتوافيق منذ إنقلاب الحوثيين على الشرعية فى اليمن، والتى جعلت إيران هى العدو الأول للسعودية وغيرها من الدول العربية، وجعلت إسرائيل دولة عاقلة يمكن التنسيق معها، فى أمور تتعلق بالأمن القومى العربى، وفى القلب منها مسألة الصراع العربى الإيرانى.
قرار ترامب يجب أن يواجه بمنتهى الصرامة والجدية من جانب القادة العرب ومن جامعتهم العربية باعتبارها بيت العرب، فالقرار خطير وكارثى، لأنه سيشجع دولا كثيرة فى القرية الكونية على عمل الشىء نفسه، أى الاعتراف بإسرائيل ونقل سفاراتهم إلى تل أبيب، أسوة بما فعلته كبيرتهم "الولايات المتحدة"، وهذا فى حال حدوثه، وهو أمر ليس مستبعدا، فإن القضية الفلسطينية ستكون قد انتهت تماما.
الرئيس الأمريكى ما كان ليقدم على مجرد التفكير فى هذه الخطوة ، لولا شعوره وقناعته بأن القادة العرب لم يعد فى يدهم شيئا يفعلونه لحمله على التوقف عن هذه الخطوة الاستفزازية ، وهى قناعة خاصة به ناجمة على مقدمات وفرضيات خاطئة منها ، اتباع معظمهم لأسلوب المناشدة والرجاء لحمل الرئيس الأمريكى على إلغاء قراره أو على الأقل تأجيله لفترة من الوقت.
القادة العرب كان بإمكانهم اقتناص الفرصة لتوجيه صفعة قاسية لترامب وإدارته فى قضية القدس ، وذلك بتصريحات وقرارات تؤكد له أن فلسطين مازالت قضية العرب الأم ، حتى ولو وصلت التصريحات إلى حد التهديد بقطع الدول العربية لعلاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية "دفعة واحدة" ، وهى خطوة بالمناسبة يمكن التلويح بها ، بل يجب التلويح بها ، حتى لا تحدث فوضى فى فلسطين يكون لها تداعيات إقليمية ، تستقبلها الشعوب وتتفاعل معها ، بالمضمون الذى ينعكس بالسلب على كل حاكم عربى يشعر شعبه بأنه تواطأ ، أو تعامل مع تلك الأزمة الكبيرة بأسلوب "الباب اللى يجيلك منه الريح سده واستريح".
قرار ترامب فى هذا التوقيت بنقل السفارة الأمريكية إلى تل أبيب والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائل ، يؤكد بما لايدع مجالا للشك ، أن إدارة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما ، هى التى صنعت تنظيم الدولة" داعش" ، وأن ترامب وإدارته يجنيان ثمرته ، وفق خطط محددة سلفا فى دهاليز دوائر صنع القرار الأمريكى والتوجهات الرئاسية الأمريكية، فممارسات هذا التنظيم الإرهابى أساءت للإسلام والمسلمين وقلبت الموازين الفكرية والسياسية فى المنطقة لصالح إسرائيل ، وغسلت مخ الجماهير فى العديد من الدول العربية ، وبدلت مواقفها حيال مسائل حساسة للغاية ، كمسألة التطبيع مع الكيان الصهيونى ، وكلها أمور ما كان ترامب يستطيع التفكير فى تغيير وضعية القدس ، لولا حدوث كل تلك المستجدات.
الخطر الأخير من جراء قرار ترامب حال الإعلان عنه ، أنه يحرج بشدة القادة العرب ، ويقدم للتيارات المتأسلمة فرصة على طبق من فضة ، للعودة إلى المشهد كبديل لحكام ، يرونهم مفرطين فى قضية العرب الأم .
- كاتب هذا المقال باحث وصحفي مصري
التعليقات