أشعر وكأننا أصبحنا نعيش في زمن "الصدمة"، فوجود الأخلاق بات يصدمنا كما نُصدم لانعدامها تماماً، وهذا ما حدث فعلياً في لقاء الفنان هشام سليم مع الإعلامية لميس الحديدي عندما تحدث عن علاقته بوالدة الراحل صالح سليم، حيث شعرت وأنا أقرأ تعليقات بعض رواد صفحات التواصل الاجتماعي بأن هناك حالة من الصدمة، لكنها صدمة إيجابية، حيث تداول البعض كلمات من نوع "هو لسه فيه كده" ويقصدون بذلك التربية والأخلاق، وكأن القاعدة أصبحت انعدامها.
على الجانب الآخر من ذلك صدمني أنا شخصياً لقاء نائب مجلس النواب عن محافظة الفيوم منجود الهواري مع الإعلامية رشا نبيل، لكن هذه المرة صدمة سلبية.
والصدمة الحقيقية تجسدت في أن المنظومة كاملة بها شرخ عميق، فمهما كانت مهارة عامل الطلاء فلن يستطيع إخفاء هذا الشرخ، والعلاج الوحيد هو الهدم ثم البناء من جديد، فالجميع مخطئ؛ بداية من ابنة النائب المحترم التي ترعرعت على مفهوم "أنا بابا عضو مجلس شعب"، فيما ترعرع السيد النائب على مفهوم يندرج تحت النظرية نفسها "إنت مش عارف إنت بتكلم مين يا حيوان"، مروراً بمسؤولة الأمن التي لا أستطيع أن أحكم على ردة فعلها الحقيقية، لكن ما هو مؤكد أنها كانت جزءاً من النظرية نفسها، لكن على الجانب الآخر من النهر "أنا ما بخافش يا حبيبتي وأعلى ما في خيلك اركبيه"، لتنتهي السلسلة بالطلبة الذين أحرقوا سيارة السيد النائب والذين لا يشذون عن النظرية نفسها، لكن هذه المرة بمفهوم "إحنا حنجيب لك حقك ونولع في النائب والعربية". سلسلة لا تنتهي من التجاوزات، وكل منها يؤدي إلى الآخر.
لن أتحدث عن تفاصيل الواقعة وملابساتها التي تحدث عنها الجميع، لكن ما يعنيني هنا هو سيادة النائب الذي أقسم بالله مراراً وتكراراً في بداية الحلقة أنه صادق ولم يعتدِ على موظفة الأمن التي لا أعرف كم يكون راتبها، لكنه من المؤكد راتب لا يُقارن بما يتقاضاه السيد العضو المحترم، ولا أعرف حجم مسؤولياتها تجاه أسرتها، تلك المسؤولية التي تجبرها بصورة يومية على تحمل تذمر كل طالب نتيجة سؤالها المتكرر والذي هو جزء من عملها "أين كارنيه الجامعة؟".
لكن من المؤكد أنها لا تمتلك مَنْ تتصل به عندما يتطاول عليها أحد مثل ابنة عضو مجلس الشعب التي لم تتردد في أن تصفعها على وجهها وتقول لها "إنتي متعرفيش أنا بنت مين ولا إيه؟!"، ليأتي "مين" ويصفعها كذلك!
وبعد كل هذا القسم يأتي في نهاية الحلقة، وبعد مواجهات مع مدير أمن الجامعة على الهواء، والذي أكد أنه تعدى على موظفة الأمن، وأن ابنته لم تتعرض للسحل على حد قوله، وبعد مشاهدة تسجيل الفيديو الذي يظهر فيه العضو المحترم وهو يضرب موظفة الأمن، يعود ويقول أنا لم أُنكر ذلك، "يا راجل" بعد كل هذا القسم وهذه "الأيمانات" تقول "أنا لم أنكر ذلك"!
والغريب والمدهش أن ابنته بدأت حديثها أيضاً بالطريقة نفسها "أقسم بالله العظيم أنني صادقة، وأنني لا أكذب"!.
ولن أخوض في تفاصيل الحوار وما رواه السيد النائب من تفاصيل حول الواقعة، وما قاله رجاله المرافقون له عن الجامعة، لكن الحوار في مُجمله يُشير إلى نوع من "الدونية" في نظرة هؤلاء لنا، في حين أننا نحن مَنْ أجلسهم على هذا المقعد ليمثلونا، ويدافعوا عن حقوقنا.
وعلى الجانب الآخر وفي الأسبوع نفسه وتحديداً قبل هذه الواقعة بأيام، وكأنه ترتيب القدر، كنت قد شاهدت لقاء الفنان هشام سليم مع الإعلامية لميس الحديدي، وأتذكر جيداً إجابته عن سؤاله عن انتخابات النادي الأهلي والتي قال فيها: "أنا لا أستطيع أن أضع اسمي واسم أبويا، ولا أستخدم اسم أبويا لصالح نفسي أو لصالح أي حد، وأنا بالفعل عُرض علي المشاركة، ووافقت مبدئياً، وعندما تحدثت مع نفسي اعتذرت وقررت عدم المشاركة حفاظاً على اسم والدي، وحتى لا أسمح لنفسي أو لغيري باستغلال اسم صالح سليم".
وحول سبب غيابه عن النادي قال: إن والدي "رحمه الله" رفض أن نكون أعضاء في النادي أو حتى نذهب إليه، وكان يقول لي "لو أنت في النادي وطلبت قهوة حتجيلك في خمس دقائق علشان أنت ابن صالح سليم، في الوقت نفسه ريما يجلس إلى جوارك شخص ينتظر قهوته لأكثر من ساعة، فهو لن يُعامل مثلك، وأنا لا أحب أن يُستغل اسمي أو أن يقول أي إنسان ولاد صالح سليم بيستغلوا اسمه".
وفي نهاية اللقاء عندما سألته "ماذا ترك لك صالح سليم؟" قال: "ترك لي تربية وأخلاقاً، وهذا يكفي".
ومَنْ يعرف هشام سليم من داخل أو خارج الوسط الفني، ويرى خُلق هذا الفنان سيقول فقط "إنه ابن صالح سليم"، الذي لم يترك لأبنائه غير التربية والأخلاق، كما أكد هشام سليم.
والمتابع لتاريخ ومواقف الكابتن صالح سليم "رحمه الله" سيعرف إلى أي مدى أصبحنا نفتقد الرموز في حياتنا على مستوى جميع المجالات، فعلى الرغم من أنني لست من هواة كرة القدم ولا أحسب نفسي على أي فريق، بمعنى أنني لست أهلاوياً أو زملكاوياً، أنا فقط مصري أتابع وأشجع فقط منتخب مصر عندما يلاعب فريقاً آخر، ورغم ذلك كانت تجذبني مواقفه التي تنمّ عن شخصية رجل ذي طبيعة خاصة، رجل يحترم نفسه، ويحترم النادي الذي يمثله.
ومن المواقف التي لا أنساها وأتذكرها جيداً للكابتن صالح سليم عندما طلب من إحدى القنوات التليفزيونية مبلغ 300 ألف جنيه لصالح النادي الأهلي مقابل إجرائه حواراً معها، وقال ماذا يُساوي صالح سليم إلا لأنه سوف يتحدث عن الأهلي؟!
وموقف آخر عام 1995 خلال مباراة الأهلي والشباب السعودي والتي حضرها الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وحينها رفض صالح سلیم الجلوس بعیداً عن الرئیس، لأنه اعتبر أن في ذلك إهانة للنادي الأهلي، وقرر أن یترك ملعب المباراة، وقال للمسؤولین عن تنظیم المباراة "أنا ماشي وھشوف الماتش في بیتي"، وقال نصاً "أنا ممكن أتساھل في حقي بس مش ھفرط في حق الأھلي، ودي إھانة للنادي الأهلي"، ومن ثم أذعن المسؤولون لرأيه وجلس المايسترو صالح سلیم بجوار الرئیس الأسبق.
ومواقف أخرى أذكرها لصالح سليم وغيره من الرموز التي فقدناها ونفتقدها الآن، ربما تُعطينا أملاً أن هذا البلد أنجب أيضاً من يستحق أن يعيش على أرضه، مثلما أنجب من لا يستحقون، وأن لدينا دوماً رموزاً نتحدث عنها، وأن لدينا تاريخاً لا ينضب من المواقف والشخصيات التي تجعلنا نقول لأنفسنا "مازال هناك أمل"، ودائماً سنجد إيجابيات حتى وإن ندرت.
كلمة أخيرة:
من شاهد فيلم "أرض النفاق" للفنان فؤاد المهندس والمأخوذ عن قصة بنفس العنوان للأديب يوسف السباعي يكتشف أن التربية والأخلاق من الأشياء التي لا تُشرب ولا تُؤكل لكنها تُزرع في الأراضي الخصبة، ولا تعيش في الأرض البور.
محمد منير
رئيس التحرير
التعليقات