يؤمن البعض أن الحرية في حد ذاتها غاية يكمن بها التنفس فالسعادة، ويؤمن البعض الآخر أنها وسيلة لتحقيق أي نجاح بشري على الأرض؛ فهل الحرية غاية أم وسيلة؟
يرى أغلب الشباب ممن شبوا تحت سطوة أهلهم الملقبة بالعبودية؛ باستخدام ألفاظهم، أن الحرية الحقيقية بزوال تلك السطوة. وهؤلاء هم المحظوظون في الأرض، وليس العكس كما يظنون؛ فعلى الأقل يعيشون على أمل الحصول على الحرية المطلقة يومًا ما، أي أنهم مؤمنون بوجودها.
ولكن الويل وكل الويل لأولئك الذين نالوا حريتهم من قيود الأهل في صباهم؛ لأنهم سيدركون أن هناك قيودًا أكثر إحكامًا بكثير من قبضة الأهل.
ومن أخذ حريته قبل أوانه لا مفر له من الضياع ثم معرفة القيود العظمى للعالم بدرس لا يُنسى. أما من أخذ حريته في أوانه الصحيح، فسيتمنى لو يعود إلى قبضة أهله مرة أخرى، ومسئولية حدوث هذا أو ذاك تقع على عاتق الأهل فقط.
ومع اختلاف المسميات، يسعى الجميع للوصول إلى الحرية المطلقة، ولكن هل هذا ممكن؟ ترى الحرية في فعل كل ما تمليه عليك نفسك. فإذا أرادت يمكنك أن تعمل طوال حياتك لجني المزيد من المال؛ أليست هذه عبودية للمال؟ إذا أرادت يمكنك أن تفعل المستحيل لاقتناص أرقى الشهادات العلمية في العالم بأي وسيلة لكسب السيادة في المجتمع؛ أليست هذه عبودية للسيادة؟ وغيرهما من الأمثلة. وإن كانت تتوقف أذية تلك الأمثلة عليك فقط، فماذا عن رغبة نفسك في شرب الخمر أو قتل أحدهم؟
نعم، يأتي الربط هنا بين كل رغبة شهوانية للنفس وأسوأ الاحتمالات للنوايا؛ لأن هذه حقيقة مسلَّم بها لقوله تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي). فإن تُركت لها القيادة، ستقودك إلى بناء العديد والعديد من القيود مع كل ما تحب وتهوى. فإن أحبت المال أو السلطة أو غيرهما، ستسول لك أن كل الطرق للحصول على ما تريد مباحة، وتلك أبشع أنواع العبودية.
لذلك فالحرية ليست غاية ولا وسيلة؛ فلا وجود للحرية المطلقة، ولكن المسألة كلها في اختيار بأي قيد تتمسك ومن أي قيد تتحرر.
ولأن النفس البشرية هي السر الإلهي الأكثر تعقيدًا، فلا يوجد مهذب لها سوى بارئها، بأن تختار بعقلك أولًا التمسك بقيود الله سبحانه وتعالى، وهو سيتولى بعد ذلك مسألة تحرير نفسك من باقي القيود الشيطانية. وأولى السبل لتحقيق ذلك هو التمسك بتأدية العبادات، فالله غني عن عباداتنا، ليس في حاجة إليها بل نحن من نحتاج إليها. فإن غفلت عن عباداتك، ستغفل نفسك عن عبوديتها الحقيقية الوحيدة لله سبحانه وتعالى، وستصل بغرورها وشرها المندرج تحت سرها الخفي إلى حد التأله والعياذ بالله.
ولذلك وُجدت العبادات وأولها الصلاة، فتأتي بجسدك ونفسك لتقف أمامه في خشوع واستسلام تام تشكر وتستغفر وتسبح وتركع وتسجد في لقاء يتكرر خمس مرات يوميًا، ليكون استذكارًا مستمرًا لقيدك الأبدي.
ستعاني في البداية ألم النزاع بين عقلك الراغب في النجاة ونفسك الراغبة في التمرد الرافضة للخنوع، ولكنك ستستمر في جهادها حتى يرضى الله عنك ويطوعها تحت إمرتك، وهنا ستلقى النجاح والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.
فالحرية المطلقة التي ينادي بها الغرب ما هي إلا مدعاة للفسق والانحلال فالاضمحلال، أما التقيد بقيود الدين أولًا، ثم احترام قيود المجتمع ثانيًا، ثم أخذ عادات وتقاليد العائلة في عين الاعتبار ثالثًا، فهو قمة التميز والكرامة فالتحضر بإذن الله.
التعليقات