لم يعد عمل الناقد الأدبي قاصرًا على الأعمال الشعرية والقصصية والروائية والمسرحية المكتوبة، بل يمتد عمله ليشمل أكثر من ذلك، فهو ناقد في الأساس لما يجري حوله من شئون الحياة. وقد سُئل الناقد الكبير د. عبدالقادر القط يومًا عن توقفه فترة من الزمن عن نقد الأعمال الأدبية المعاصرة، فقال إنه معني الآن بنقد الأعمال الفنية أو الدرامية التي يعرضها التلفزيون، أو المسلسلات التلفزيونية، بالدرجة الأولى لأنها تدخل كل بيت ويشاهدها الكبير والصغير معًا، والمتعلم وغير المتعلم، وأنها تشكل خطورة أكبر من الأعمال المطبوعة.
وقد عرفنا الناقد الدكتور حلمي محمد القاعود – من قبل – ناقدًا أدبيًّا، ومبدعًا قصصيًّا وروائيًّا وكاتبًا إسلاميًّا، ولكنه يفاجئنا في كتابه "أهل الفن وتجارة الغرائز" بأنه ناقد فني من الطراز الأول. إنه يتعرض في كتابه هذا لقضية الفن الكبرى ومشكلته الحالية التي يعاني منها الجمهور والفنانون على السواء لدرجة تجعل بعض الممثلين المشهورين في الأجيال السابقة يشعرون بالندم – أحيانا – لاشتغالهم بالفن، كما أعلن الفنان كمال الشناوي قبل رحيله. وفنان آخر مثل أحمد مظهر يشعر أيضا بالندم – قبل رحيله – على هذه السنوات التي ضاعت في الفن، ولن يستطيع تعويضها.
إن القضية أو الجريمة التي تواجهنا الآن والتي يرتكبها معظم أهل الفن الحاليين، في حق أوطانهم وشعوب أمتهم لا يمكن السكوت عليها.
يقول المؤلف في مقدمة كتابه: "إن الطابع العام للواقع الفني – إن صح التعبير – هو الاستهانة بعقول الناس وتسطيح وعيهم وتزوير مشاعرهم والتدليس عليهم بما لا يتلاءم مع هويتهم الإسلامية الشخصية، مما يعني أن المعادلة بين أهل الفن وغيرهم من بناة المجتمع الحقيقيين مختلة وناقصة وغير صحيحة، ولكن لا يزال السؤال مطروحًا: ما الذي وضع الفن العربي – في معظم أعماله السينمائية والمسرحية والتلفازية – في هذا المستنقع القذر، وهذا المأزق الصعب؟ هل الفنانون أم المنتجون أم المخرجون أم الجمهور؟
إن الإجابة عن مثل هذا السؤال – كما يقول المؤلف في ص 19 – تتطلب مراجعة تراكمات كثيرة في عالمنا العربي والإسلامي ارتبطت بتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية فضلا عن الصراع الحضاري القائم بيننا – نحن المسلمين – وبين المدنية الغربية، ومعها الحركة الصهيونية الناشطة بكل أحلامها الشريرة في الاستيطان والتوسع، وقهر ما تبقى من مقاومة واستئصالها.
يقوم المؤلف بمراجعة سريعة لنشأة السينما والمسرح في البلاد العربية، وكيف كانت الأفلام تمول بأيد يهودية، وكيف كان اليهود يبنون بعض الاستديوهات ويسهمون في شركات الإنتاج التي تننج أفلامًا عربية تسخر من الإسلام والمسلمين، ومن التدين والحجاب، وتدعو إلى الاختلاط بين الرجال والنساء وسفور المرأة ومراقصة الرجل المرأة على الطريقة الأوروبية، فضلا عن تطبيع علاقات المخادنة والسكر والعربدة مع الواقع الاجتماعي من خلال الواقع الفني، ومع رحيل اليهود – من مصر – ظهر البديل المتمثل في تلاميذ مخلصين لهم يتبنون كل ما هو مضاد ومناف للتصور الإسلامي، وانعدام الإحساس الخلقي والالتزام العقدي عندهم، فضلا عن وجود مجموعات من المتعصبين الذين شدُّوا عن التيار العام في العالم العربي، الأمر الذي أدَّى إلى كل هذه التراكمات من الأفلام الهابطة والمسرحيات البذيئة والأغاني الخليعة. وكأن المجتمع كله تحوَّل إلى هذا المستنقع عند هؤلاء.
ويتساءل المؤلف والحال قد وصل إلى ما هي عليه الآن: أين الشرفاء والشريفات، وما أكثرهم، في المجتمع في أعمال هؤلاء؟ وأين الذين يضحون من أجل الأوطان والأخلاق والكرامة؟ وأين الزعماء والقادة الذين التف حولهم الناس، وقدموا معهم الأرواح والأموال فداءً للحرية والدين؟ ألا يوجد في المجتمع وأفراده أماكن أخرى ونماذج مغايرة تختلف عن أوكار الانحراف والدعارة وأبطال البلطحية والعربدة تصلح للتناول الفني؟
والإجابة بالتأكيد، بلى توجد أماكن طاهرة كثيرة وأشخاص صالحون كثيرون، ولكن عمى الألوان أصاب أهل الفن من أجل مصالحهم الضيقة ومكاسبهم الواسعة رغم أنهم في النهاية يخسرون أنفسهم وأبناءهم، ويخسرون قبل كل هذا دينهم، وتضيع حياتهم هباءً منثورًا في شهرة زائفة ومجد مفقود.
إن هذا الكتاب الذي أهداه مؤلفه إلى السيدة شمس البارودي الشامخة التي تمردت على شياطين الإنس، ولاذت بحمى رب الكون - يمثل صرخة عالية تدين أهل الفن، وتدين الأعمال الفنية والغنائية الهابطة – وما أكثرها – وتدين تجارة الغرائز التي يتكسب الكثيرون منها، كما أنه – أي الكتاب – مملوء بالشهادات التي يدلو بها عدد من الفنانين أنفسهم عن الواقع الحالي للفن ولمجتمع الفن.
التعليقات