دائما ما تأتي الفكرة قبل وجود المصطلح، فممارسة سلوك الإرهاب هي السبب الذي دفع أساتذة علم الاجتماع السياسي لوضع تعريف لتلك الممارسة الإنسانية الشاذة، وليس العكس فتلك أوضاع يصعب التنبؤ بها، وكذلك كان الحال عندما ظهر كيان دولة لا يقتصر سلطته على الشعب الواقع داخل الحدود فقط، بل يمتد نفوذه إلى دول نائية. كيان يملك من القوة السياسية والاقتصادية ما يجعل كلمته مسموعة داخل حدود دول مستقلة عنه جغرافيا.
وهنا جاء تعريف القوة العظمى، وُصف بها في البداية الإمبراطورية البريطانية "الإمبراطورية التي لا يغيب عنها الشمس" فكانت لها السيادة وحق الأمر بحكم احتلالها على العديد من الدول حول العالم، ولكن لم يدم سطوع نجمها، فقد قلت قوتها تدريجيا إلى عام 1956 حيث يرى المؤرخون أن حربها ضد مصر بالتحالف مع كل من فرنسا وإسرائيل (العدوان الثلاثي) كانت النهاية الفعلية لتصنيف بريطانيا كقوة عظمى، حيث انسحبت بريطانيا بقواتها خضوعا لتهديد الاتحاد السوفييتي بالتدخل في الحرب ومحو العدوان عن مصر، حيث كانت الحرب رد من بريطانيا على طلب مصر الدعم العسكري من الاتحاد السوفييتي الطلب الذي لاقاه الاتحاد السوفييتي بالترحيب، بينما تدخلت فرنسا في الحرب انتقاما من مصر لدعمها الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، وإسرائيل كانت بطبيعة الحال تنتظر سنوح الفرصة لدخول مصر والسيطرة على سيناء.
ومنذ ذلك الحين أضحى العالم لا يعترف بقوى عظمى غير الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، وهنا بدأ النزاع بينهما في حرب باردة للسيطرة على العالم بسلب نفوذ الآخر.
وهنا نشبت العديد من الحروب حول العالم يدعم الاتحاد السوفييتي طرفا والولايات المتحدة الأمريكية الطرف الآخر مثل الحرب الكورية والحرب الفيتنامية وعلى هذا استمرت الحرب التي بدأت في عام 1945 أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1991، حيث تم الإعلان عن تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي؛ لتصبح الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة في العالم اصطلاحا وممارسة.
ولكن هذا الاستقرار لم يدم طويلا، فمنذ تقلد بوتين منصب رئيس روسيا لأول مرة وهو يعمل على إعادة روسيا كقوة عظمى من جديد، وهذا كان بدافع غريزي لقائد قوات مسلحة بدأ خدمته فيها منذ عام 1975 أي نشأ عسكريا في كنف الاتحاد السوفييتي، والحق يُقال أنه استطاع أن يعيد روسيا إلى المنافسة في الساحة العالمية.
وبدأت روسيا في العودة إلى حربها الباردة من جديد، فكان وجود الولايات المتحدة الأمريكية داعمة لأحد أطراف أي نزاع كافيا لروسيا بأن تأخذ جانب الطرف الآخر.
عندما كان نظام الرئيس الأسبق لسوريا بشار الأسد مهددا بالزوال بعدما وصلت الحرب الأهلية التي بدأت بعد ثورة 2011 إبان زوبعة الربيع العربي إلى ذروتها عام 2015، طلب بشار الدعم والحماية من بوتين، ولاقى الطلب ترحابا كبيرا؛ ليبقى نظام بشار قائما لمدة تسع سنوات بفضل الدعم المستمر من روسيا.
وكانت القوات الروسية تدافع عن نظام بشار جنبا إلى جنب مع حليفها الثاني في المنطقة وهو حزب الله الذي لاقى أيضا دعما اقتصاديا وسياسيا كبيرا في رحلة روسيا لتوسيع دائرة نفوذها في لبنان.
أما عن القضية الفلسطينية، تأخذ أمريكا طرف وليدها، ولذلك اختارت روسيا طرف الخصم المتمثل حاليا في حماس؛ فلم تصنفها روسيا كتنظيم إرهابي قط، بل عملت على تقوية العلاقات معها، فكانت دائما ما تعلن عن استضافة وفود سياسية من قادة حماس في العاصمة موسكو، ومثلما أدانت حركة طوفان الأقصى، قد أدانت أيضا الرد الإسرائيلي بالقصف على غزة، وخلال العام الماضي أظهرت وسائل الإعلام الروسية دعمها الكامل لحماس مع العمل على تشويه سمعة إسرائيل وحليفتها، حيث صرح بوتين قائلا: "إن الحرب تظهر فشل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط"، وردت حماس بتقديم الشكر والامتنان لموقف بوتين الداعم لها.
ولم تقف روسيا عند هذا الحد بل أقامت تحالفا مع الحوثيين في اليمن؛ حيث أعلنت العديد من الصحف الأجنبية عن ثمار ذلك التحالف الذي وصل إلى حد تجنيد يمنيين وإرسالهم إلى الجبهة في أوكرانيا بمساعدة الحوثيين.
ولكن كلما كانت روسيا تنخرط أكثر وأكثر في حربها مع أوكرانيا، كلما زادت غفلتها عن استقرار وضعها في الشرق الأوسط، فعندما فقدت جبهات النزاع الداخلي داعمها الأول؛ حدث الاختلال ثم التقهقر من ساحة المعركة.
سقط نظام بشار الأسد وأصبحت سوريا تحت قيادة أحمد الشرع القائد الأعلى لهيئة تحرير الشام مع دعم كامل من القوة العظمى.
وتعرضت حماس لزعزعة تهدد استمرار وجودها، وخاصة بعد مقتل أغلب قادتها بداية من طوفان الأقصى حتى الآن.
كما تقلص نفوذ حزب الله في المنطقة، فاستقر في موطنه الأصلي في لبنان، مع تعرضه لهجمات لا تقل ضراوة عن تلك الهجمات التي وُجهت ضد حماس، خاصة بعد مقتل حسن نصر الله الأمين العام الثالث لحزب الله.
كما تم الإعلان عن تصنيف الحوثيين كتنظيم إرهابي مع توجيه زاوية المدفع إليهم.
لم تنتهِ الحرب بعد، ولكن التي حُسمت هي الحرب بين القوى العظمى؛ حيث ظهر الفارق بين الاتحاد السوفييتي وبين روسيا المتنازعة مع أوكرانيا التي كانت يوما هي أيضا تحت كنف الاتحاد السوفييتي.
التعليقات