خرج الخبر علينا، فلاقى الهتاف والزغاريد والتكبيرات. ففي الوقت الذي نبكي فيه على حال أشقاء آخرين، جاء نصر أخيهم ملطِّفًا لحمأة قلوبنا، مذكِّرًا إيانا أن النصر دائمًا لأصحاب الأرض بقلوبهم الطاهرة الصادقة.
بدأت في مساء السابع من ديسمبر، ووصلت إلى مرادها في صباح الثامن من ديسمبر 2024. ثورة الشعب المناضل الباقي على أرض سوريا، معانقًا للموت بعد أن ساد الخرابُ جرفًا بلا رحمة.
استعادوا حقهم في قيادة بلدهم بأيديهم، فلم يجد الطاغية حلًّا سوى الفرار وترك زمام الأمور في أيدي من يستحقونها. هكذا تسير الدنيا، وبهذا نؤمن أشد الإيمان. فما أوسع صفحات التاريخ التي تتسع لكتابة أسماء ملايين، بل مليارات، من القادة والزعماء، الصالح منهم والفاسد. ولكل حقبة نهايتها، شاء ذلك أصحابها أو أبوا؛ فنحن فانون والأرض باقية.
لكن لا يجب أن ننسى أن تلك الصفحات تتسع أيضًا لكتابة تفاصيل ملايين من الثورات والحروب، الناجح منها والفاشل. فمن يرى أن الثورة دائمًا علامة خير، ألم يسمع يومًا عن فواجع الأقدار؟
إن ما حدث من ثورة شعبية ليس إلا بداية لرحلة تغيير جديدة، ولن نجدها مجدية إلا باستقرار الوضع العام وعدم التنازع على السلطة. فإن كان الله قد وفقنا للانتهاء من المرحلة الأولى من الرحلة، التي كنا نراها الأصعب والأبعد عن الحدوث، فهل سنسمح بضياع ما وصلنا إليه الآن؟
إن المصلحة العامة أبقى وأولى، وهي تستلزم تكاتفًا وتعاونًا منقطع النظير بين جميع الفصائل الموجودة على أرض سوريا حاليًا، التي نشأت أغلبها استجابة لضغط الدمار الجارف. فإن دخلت البلاد في حرب أهلية وحاولت كل فصيلة انتزاع جزء من الأرض لنفسها، ستتمزق الأرض في أيديهم، ولن يبقى لهم سوى الأطلال يبكون عليها.
ثلاثة عشر عامًا من حال يصعب وصفها بالكلمات. فإن قلنا ثلاثة عشر عامًا من الظلم، لعدَّ ذلك استخفافًا بما مر به الشعب السوري طوال تلك الفترة. من بقي منهم على الأرض الطاهرة تعرض لأبشع أنواع العنف والتعذيب داخل السجون والمعتقلات.
تنتشر الآن على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لمعتقلين ومعتقلات يروون فيها ما حدث لهم بكلمات قاسية يملؤها الألم. ليالٍ يشيب لها الولدان، وقد رأينا أن ذلك قد حدث فعليًا. رأينا شبابًا خرجوا لتوهم من المعتقل لا يعلمون حتى أسماءهم، ولا يتذكرون ما حدث لهم. عقولهم، التي تعرضت لضغط هائل، يأست فهربت، تاركة أجسادهم كجثث خاوية.
لا شيء في الدنيا سيعوض أولئك عما فقدوه، لكننا نسعى لتحقيق أضعف الإيمان: أن تنتهي مأساتهم، وأن يروا أمامهم مقابلًا منصفًا لما جرى.
ولا يجب أن ننسى أولئك المهاجرين الذين تركوا ديارهم وبلدهم. الله شاهد على صدقهم وحبهم لوطنهم، الذي خرجوا منه مرددين في داخلهم قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت."
أصبحوا بيننا ونِعْمَ الإخوة والجيران، فلم يكونوا غرباء عنا قط. نأمل من الله أن نكون قد أحسنا استقبالهم بيننا أهلًا لا ضيوفًا. والله وحده يعلم أن عودتهم إلى بلادهم أسرت السرور في قلوبنا، كالابن الذي يتزوج ويرحل عن بيته، لكنه يترك ندبة مؤلمة في قلوب أهله الذين اعتادوا قربه.
نأمل من الله عودة سوريا إلى ما كانت عليه قبل نكبتها، وأن تعود دمشق معقلًا دينيًا وثقافيًا وحضاريًا يجذب قلوب محبيها من جميع أنحاء العالم. كما نأمل أن يتمم الله علينا فرحتنا بسوريا على خير، ويكملها بنصرة باقي إخواننا في فلسطين ولبنان وسائر الأمة العربية عما قريب بإذن الله.
راح بشار وبقيت سوريا، فوُلد الأمل.
التعليقات