أسترسل على مقعدي في الحافلة، مُطلِقاً لذهني العنان، فأرتحل عبر أزمنة الماضي والحاضر، مستسلماً لأحلام اليقظة التي بالكاد أخلو إليها. تتناغى أم كلثوم بصوتها العذب: "خاصمتك بيني وبين روحي"، وعبد الحليم يبث شجونه: "قلبي قول للحب ابعد عن طريقي"...
يتحول بصري نحو المشهد الممتد، حيث ترقص المزارع والسماء الرحبة، والشمس تتوهج بإشراقها الدافئ، كأنما تمنحني رخصة للحلم والتأمل. أسرح مع الألحان والكلمات، عائداً إلى شوارع الذكريات العتيقة، محملاً بأصداء الحياة وخباياها.
أستعيد عبير الزمن الجميل، ذلك العمر المنصرم، مستحضراً ذكريات تنبض بالحياة والحنين. أيام الشباب الفتية، حيث براءة القلب، ونقاء الحب والصداقة التي لا تعرف أي حدود. أعود لأعيش لحظات من الشجن، متماهياً مع الماضي، مستذكراً والدي. والأزقة التي تتنفس حكايات الأجداد، وتحكي قصص الماضي بصمت عميق، تتراءى أمامي كلوحة فنية. روائح البيوت العتيقة التي يعجز الزمن عن محوها، تلك الجدران الحجرية المتلاصقة، حيث يمتزج عبير الياسمين والفُل بين فيلات بورفؤاد بعطر القهوة التركية الفواح.
أسترجع شاي العصاري بنكهته الفريدة، وتوريبة الشيش الخشبية، والشمس المتسللة من بين فتحاتها، قبل أن تتحول النوافذ إلى الألمنيوم البارد. تتدفق الذكريات كسيل جارف، حاملة معها عبق الزمن الجميل وأحلام الماضي.
وأتساءل بلهفة الحالم: هل يمكن للزمن أن يتوقف قليلاً، فلا نترك ما مضى؟ أم هل له أن يمهل، فيترك للحلم مساحة أوسع ليستمر برهة أطول؟ يا أيها الطريق، أسألك الا تنتهي، لتبقى الذكريات حية قليلا، ولتترك لي متسعاً من الحياة.
التعليقات