إن أعظم أفلام الخيال العلمي، وخاصة في سينما هوليوود، هي تلك الأفلام التي تصدق أنها حقيقة أو على الأقل يمكن أن تكون حقيقة في المستقبل. والغريب أن أغلب تلك الأفلام تحققت على أرض الواقع: فيروس صغير يظهر وينتشر بقوة وسرعة كطوفان، يفتك بجسد من يصل إليه، فلا يتركه إلا في قبره. اختبأ البشر في منازلهم خائفين، توقفت العملية التعليمية والبحثية، تجمدت الأسواق المهنية على اختلافها، ووقف العالم على قدم واحدة منتظرًا مصيره. وكانت تلك مجرد رواية تُحكى في أفلام الخيال العلمي، وصدقناها.
أن يصبح العالم خاليًا من البشر، وتديره مجموعة من الروبوتات، فهذا لم يعد مجرد خيال. منذ بداية عام 2017، بدأ الحديث عن تمكين الذكاء الاصطناعي من محاكاة السلوك البشري: كيف يتحدث، وكيف يفكر، وكيف يحكم، وكيف يبحث ويتعلم. وفي عام النكبة الكبرى، 2020، انطلقت حقبة جديدة بالإعلان عن مجموعة ضخمة من أدوات الذكاء الاصطناعي المجانية، بمحاكاة شبه كاملة للعقل البشري. ومن أبرزها نموذج ChatGPT، وهو عقل يحوي كمًّا هائلًا من المعلومات والمهارات والقدرات المستخلصة من مليارات البشر. يمكنه التحدث معك بأي لغة مهما بلغت صعوبتها، وبالطريقة التي تختارها، وفي أي مجال تحدده. ولا يقف الأمر عند مجرد سؤال وجواب، بل يبدأ بتقديم نفسك له، وتوضيح تفكيرك وطبيعة عملك، في عملية يسميها البعض "تهيئة أداة الذكاء الاصطناعي". ثم تطلب منه أدق التفاصيل، ليأتيك بالنتائج بأفضل صورة ممكنة.
ومنذ ذلك الحين، يسير البشر حاملين همومهم فوق رؤوسهم، يأمرون أبناءهم بكل صرامة بدراسة علوم الحاسب وتطوير الذكاء الاصطناعي، معتقدين أن هذا الأخير سيقضي على أغلب المهن البشرية، إن لم يكن جميعها. لكن، هل هذا ممكن حقًا؟ وهل يجب أن نؤمن بأن الإنسان استطاع خلق عقل أنضج وأقوى من العقل البشري الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، ليغني عنه؟
ما الذكاء الاصطناعي إلا مجموعة من البيانات الموجهة لمحاكاة السلوك البشري. ولكن، هل يستطيع الذكاء الاصطناعي التصرف في أمر لا يملك له بيانات؟! حاول أن تتخيل معي قليلًا: أن تطلب من طبيب الذكاء الاصطناعي إجراء عملية في قلب جنين قبل أن ينجح فيها الدكتور مجدي يعقوب. أو أن تطلب من صيدلي الذكاء الاصطناعي تصميم دواء لعلاج مرض مستعصٍ ليس له علاج، كما فعل الدكتور مصطفى السيد مع السرطان. أو أن تطلب من كاتب الذكاء الاصطناعي ابتكار نوع جديد من الأدب لم يسبق له مثيل، كما أبدع توفيق الحكيم المسرح الذهني. أو أن تطلب من رسام الذكاء الاصطناعي رسم لوحة بمهارات فريدة وإبداعية، كما أضفى رامبرانت الحياة والروح إلى أعماله من خلال لعبه بالإضاءة في لوحاته... والكثير من الأمثلة الأخرى التي لا يمكن حصرها في بضعة سطور.
إن الذكاء الاصطناعي يقدم أفضل جودة لما هو متاح فقط، لما هو موجود في البيانات المضافة إليه. ولكنه لن يستطيع أبدًا أن يبدع شيئًا جديدًا، لأن هذه القدرة لا وجود لها إلا في عقل الإنسان، الذي هو من صنع الله سبحانه وتعالى. وأكبر دليل على ذلك هو وجود الذكاء الاصطناعي نفسه.
إذن، ستبقى خيوط اللعبة دائمًا في أيدينا، ولن يستطيع أحد من مخلوقاتنا سحبها. ولكن، ماذا عن الاستفادة؟! لا ينبغي أن ينصب تفكيرنا دائمًا على كيف سيقضي الذكاء الاصطناعي على حياتنا المهنية، بل يجب أن نفكر في كيفية تطويعه لخدمتنا في تعمير الأرض، إرضاءً لله سبحانه وتعالى. ينبغي أن نسمح له بالتطور ليحمل عنا عبء المهام الروتينية في كل مهنة، لكي نتفرغ نحن، العقول البشرية، لخلق جديد... خلق ما هو أعظم من الذكاء الاصطناعي.
التعليقات