عندما تذكر كلمة "الجسد" لدى الكثيرين يتبادر إلى الذهن "الجنس" على اعتبار أن الجسد هو الذي يمارس هذا الفعل. وعندما ظهرت إلى الوجود عبارة "الكتابة بالجسد" كان معظم المفسرين لها يرون أن هذه العبارة أكثر التصاقا بأدبيات الجنس سواء في الشعر أو الرواية أو القصة القصيرة وأيضا الكتابة الدرامية، فللجسد رغباته وأصواته وأحلامه، والبعض كان يظن أن رواية "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي رواية إباحية متوقفا فقط عند عتبة العنوان.
ولكن من يقرأ كتاب "الجسد في الرواية الإماراتية" للدكتور رسول محمد رسول يكتشف أن لـ "الجسد" معاني ودلالات أكثر شمولا من كونه "جنسا". فالجسد "كينونة رمزية إيحائية وإشارية وعلاماتية وأيقونية، تضاف إلى الأجسام من خلال تمثيل الإنسان لها"، أو أنه قيمة مضافة إلى واقع الأجسام، وذلك على الرغم من الاعتقاد السائد (لغويا) أن الجسد هو جسم الإنسان، أو أن الجسد هو بدن الإنسان، ومنه الفعل "تجسَّد"، وقد يقصد بالجسد "الجثة" أيضا.
إذن أمامنا الآن ثلاثة مصطلحات: الجسد، والجسم، والجنس.
وقد عرَّف رسولُ الجسدَ في الفقرة السابقة، أما الجسم فهو "شيء له شكل وثقل ولون وطعم وطول وعرض"، ومنه الفعل "تجسَّم".
بينما نعني بالجنس هنا عملية الاتصال بين الرجل والمرأة، غير أنه ينبغي الإشارة أيضا إلى أن هناك الجنس بمعنى النوع (ذكر أم أنثى مثلا) وجاء في لسان العرب أن الجِنْس أَعمُّ من النوع، ومنه المُجانَسَةُ والتَجْنِيسُ. ويقال: هذا يُجانِسُ هذا أَي يشاكله، وفلان يُجانس البهائم ولا يُجانس الناسَ إذا لم يكن له تمييز ولا عقل. والجِنْسُ أيضا: الضَّربُ من كل شيء، وهو من الناس ومن الطير ومن حدود النَحْوِ والعَرُوضِ والأَشياء جملةٌ.
غير أن الدراسات السيميائية الحديثة ذهبت إلى عوالم شتى في مسألة "الجسد"، ومنها مكانية الجسد حيث الجسد موجود في كل مكان بوصفه كينونة افتراضية قابلة للحضور وإعادة الإنتاج عندما تكون موضوعا لإدراك وفهم الإنسان، موضوعا قابلا للتشكل بواسطة المخيلة البشرية، سواء في الحياة اليومية المعتادة أم في أنظمة وأنساق الإنتاج الإبداعي الخلاق.
ومنها رأسمال الجسد، حيث لا يوجد الجسد إلا بقدر تعلقه بموجودات أخرى، فالجسم البشري هو حاضنة الجسد البشري، والجسم الحيواني حاضن للجسد الحيواني، والأمر سيان مع الكائنات الأخرى، فلا يكاد يوجد جسد من دون حاضنة جسمية ما، وعلى ذلك يستمد الجسد رأسماله القوي (ديناميكيته) من قوى حاضنة له.
ويخلص د. رسول محمد رسول في الفصل الأول من كتابه الصادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث إلى أن الإنسان هو صانع الجسد بمدركاته الحسية، وبفهمه وتمثيله للقيم المضافة على الأجسام التي يتكون منها الجسد، وأن هناك ثلاثة عوامل تجعل الجسد حاضرا، هي: الأجسام بكل أنواعها، والتناسق الفائق، والإنسان الذي يعي جسدية الأجسام.
وفي الفصل الثاني يعالج المؤلف "جسدية الأشياء" من حولنا، وكما توجد وتحضر في حياتنا التي نعيش فيها، كجسد المنزل، وجسد المدينة، وجسد الصحراء، وجسد البحر، وجسد المقهى، وجسد الحديقة، إلى جانب الجسد الذكوري، والجسد الأنثوي.
ولنضرب مثالا بما يقصده المؤلف من خلال "جسد البحر" أو "جسدية البحر"، فهو يرى أن سكان المناطق البحرية "هم القادرون أبدا على تمثيل جسدية البحر لما لهم من علاقة وجودية ومصيرية معه، ولما عندهم ممن خبرات في ملامسة حضوره في أنماط عيشهم وفي ذواتهم، وفي مخيلتهم، وهي الأنماط التي تنتج مجمل علاقاتهم مع البحر كوسيلة عيش وانتقال وتجارة، وكفضاء ثقافي مفتوح على التأويل والتمثيل وتوليد المواقف، وبالتالي الكتابة. وكل ذلك يعني أن جسدية البحر تنتج ذاتها في ذوات الآخرين؛ فقد يبتلع البحر بعض البشر، لكنه يمنح الكثير من العاشقين أساطيرهم الخالدة، أولئك الذين تضيق بهم اليابسة فيجدون في جسدية البحر ملاذ خلودهم الذاتي".
وتأتي جسدية الجسم البشري من خلال قدرة الجسم على التعبير الجسدي مقارنة بغيره من الأجسام خصوصا الأجسام الجمادية، فإذا كان للرجال أجسامهم، فلهم كذلك أجسادهم، وهو ما ينسحب أيضا على المرأة.
ومن هنا يدلف المؤلف إلى عالم الرواية كاشفا عن تمثيل الجسد في المتخيل الروائي، متوقفا عند مخيلة المبدعين، حيث إن عملية تمثيل جسد الأشياء التي جرت في المخيلة الإبداعية ليست بالعملية البسيطة كما يعتقد أغلب الناس، وإنما هي عملية معقدة تصنع فيها الصور من خلال الخيال.
ويحاول رسول محمد رسول تطبيق كل ما ذكره وأورده في فصول ثلاثة، غلب عليها التنظير والالتفاف حول الجسد ووظائفه وإشاراته وتنبيهاته، على الرواية الإماراتية، وكيف تعامل المبدعون الإماراتيون مع الجسد بالمفهوم السابق شرحه من خلال ثلاثة أنواع للجسدية هي: الجسدية الأنثوية وجسد البحر والجسدية الذكورية، ومن هؤلاء المبدعين: صالحة غابش وروايتها "رائحة الزنجبيل"، ومريم الغفلي وتجربتها في رواية "بنت المطر"، ومحمد حسن أحمد ورواية "للحزن خمسة أصابع"، وعلي أبوالريش ـ صاحب النصيب الأوفر من الدراسة ـ وروايته "الغرفة 357".
إلى جانب أعمال سمية محمد العكبري، وناصر الظاهري، وأمنيات سالم، وأسماء الزرعوني، وباسمة يونس، وراشد عبدالله، وخالد سالم الجابري، ورحاب الكيلاني.
وليس بالضرورة أن تكشف مثل هذه القراءات في الأعمال الروائية عن جودة الرواية أو عدم جودتها، بقدر ما تكشف عن تطبيق فكرة الجسد في تلك الأعمال ومدى ملاءمتها لوجهة نظر المؤلف، وما وضعه من تمهيد نظري قبل الولوج إلى عالم الرواية الإماراتية.
التعليقات