ترى الواجهة الأولى لثقافة الشعوب في حالة عدم احتكاكك بهم مباشرة؛ فإذا ذهبت إليهم وعاشرتهم لفترة سترى بالتأكيد أن لديهم المزيد ويمكن أن يكون أهم بكثير من الصورة التي كونتها في ذهنك مسبقا؛ فلا ينم غلاف الكتاب عن كامل محتواه...
إذا أفسحت المجال لخيالك قليلا للتنقل بين الدول المختلفة التي لم تذهب إليها بعد؛ ستكتشف بنفسك تلك الواجهة الأولى... ترى أناسا يرقصون رقصات خفيفة شعبية في مشهد صاخب بالألوان فمرحبا بك في الهند. ترى عرضا فخما لصيحات موضة خارجة عن أي مألوف فمرحبا بك في باريس. ترى مبنى أوبرا عتيق والعديد من المسارح والمتاحف الموسيقية وكأنك في قلب عاصمة للآداب والفنون فمرحبا بك في فيينا. ترى شعبا يقظا نهاريا ومحال صغيرة في الأزقة تبيع المخبوزات بأنواعها ومطاعم تقدم البيتزا والمعكرونة على الطريقة الكلاسيكية وبأفضل مذاق؛ فمرحبا بك في إيطاليا. ترى أضخم وأشهر استوديوهات التصوير السينمائي؛ فمرحبا بك في لوس أنجلوس. ترى كل ذلك أمامك في صور منفصلة منظمة؛ فمرحبا بك في مصر....
فإن كان كل شعب من شعوب العالم قد اشتهر بفن أو اثنين أو ثلاثة على الأكثر فلن تجد لمصر منافسا أبدا... اشتهر شعبها بالمسرح والسينما والدراما حتى لُقبت بهوليود الشرق، واشتهر شعبها بالموسيقى واحتراف الغناء وتذوقه من قبل الجمهور البسيط حتى خرج من مصر وإلى الدنيا قامات فنية أمثال محمد عبدالوهاب ومحمد فوزي وأم كلثوم، واشتهر شعبها بتمرس الرقص والفنون الشعبية حتى غزت فرقه العالم في دعوة لنشر ثقافة سكان محافظات مصر المختلفة من الصعيد إلى البدو إلى الإسكندرية مرورا بالقاهرة وغيرهم مثل فرقة رضا؛ ولأن المطبخ واحد من أهم الفنون وهو الأقرب لقلوب الشعب المصري؛ فقد فرض المصري هويته الكاملة على ما يشربه وما يأكله؛ فعصر قصب السكر، وملأ الحمام بالأرز والفريك، وخلط الأرز بالعدس بالمعكرونة وزينها بالبصل والصلصة الحمراء المميزة في جمع غير مسبوق... ولكن أين اندثرت كل تلك الصروح؟ كيف خفت كل ذاك البريق؟
وإذا رأيت مداخن مصانع تنتج عوادم سوداء خانقة فمرحبا بك في ألمانيا... كيف ظهرت الصناعة في الواجهة الأولى من ثقافة الشعب؟ هل هذه مجرد حالة شاذة للقاعدة السابق ذكرها؛ حيث تفوقت الصناعة على الفنون؟ أم أن ألمانيا لم تثبت براعة في أي فن من الفنون مطلقا؟
خرج منها بيتهوفن وباخ من أشهر الموسيقيين في العالم، ولكن لسبب ما حُسبوا دائما على النمسا؛ حيث أنهما قضا أغلب حياتهما في عاصمتها فيينا. لا تمتلك ألمانيا مطبخا بمعناه المعروف فأطباقه مألوفة بالنسبة إلى العالم؛ فإن صناعة البان كيك من البطاطس بدلا من العجين لا يُعد اختراع جديد فلا يزال بان كيك.
الشعب الألماني معروف بالقوة الأقرب إلى الغلظة بحد كبير، ويظهر معالم تلك الغلظة على كل تصرفاتهم وتعاملاتهم وكذلك لغتهم....
فهل هذا تأثير الصناعة؟ أم لأنه شعب افتقر من الفنون... من أهم مهذب للنفوس؟!
التعليقات