لكل مقام مقال... حقيقة تتوارث في كل مجالات الحياة ما عدا مجال التعليق الصوتي والردود المسجلة سابقا. يتحدث الطبيب عن حالة مريضه أمامه بكل صدق إذا لمس منه القوة والثبات؛ فإذا وجده غير متزن على وشك الانهيار فإنه يؤثر إخبار عائلته بالحقيقة ويكتفي بأن يقول للمريض أن كل شيء سيكون على ما يُرام. ينطق القاضي بحكم القانون على المتهم بأقصى درجة عقوبة؛ وفي يده أن يخففها إذا سبق للمتهم أن اعترف بجريمته مبكرا بسبب ندمه عليها. وعلى هذا تسير كل المجالات، بل هكذا تسير الحياة؛ فإذا كانت تلك المرونة واردة بل واجبة أحيانا في المجالات العلمية؛ فكيف أصبحنا نرى الفنون جامدة بلون واحد وطريقة واحدة؟!
كيف نرى أن التمثيل في المسرح والسينما والتليفزيون واحد؟! فهل طريقة الكتابة في الرواية والمسرحية والمقال واحدة؟! صحيح أن هناك أسس وثوابت لا يجب الخروج عنها، فلا يجب أن تكتب بلغة وتخطيء في صلبها، كما لا يجب أن تمثل وأنت بعيد عن قوالب التمثيل.
ولا نتحدث هنا عن قوالب ثابتة مقيدة مفروضة على من أراد احتراف التمثيل، بل تلك قوالب مقتبسة من أمثلة ناجحة في كل جانب تمثيلي، فإذا بحثنا في أدوات الممثل نجدها لا تُحصى، ولكن إذا جمعت كل نجوم السينما... نجوم بالمعنى الحرفي؛ ستجد أن جميعهم اتفقوا على تميز أداة التقمص ومنهم أحمد ذكي وسعاد حسني وفاتن حمامة في الجيل القديم، وكريم عبدالعزيز وياسمين عبدالعزيز في الجيل الحالي، وسيبقى الحال لأجيال متتالية بإذن الله؛ والغريب أن تجد أن أغلب من أبدع في عالم السينما لم يحصد النجاح ذاته في الدراما أو على المسرح... لأنه في العادة إما أن تأخذ المتوسط من كل شيء أو القمة في شيء واحد ولله الاختيار فلا أنا ولا أنت.
فالتقمص أداة صعبة قاتلة في بعض الأحيان بمن يُسلم روحه بالكامل لها وهذا قيل على لسان مُلاكها؛ فهي عباءة للروح يرتديها الممثل قبل إدارة الكاميرات لأول مرة ولا يخلعها إلا بعد اطفائها لآخر مرة ليكتشف ما حدث من تلف لروحه أسفلها طوال تلك الفترة وهو لا يدري، ترى أحمد ذكي تارة في شخصية السادات وتارة في شخصية عبدالناصر، فتصدق أنه السادات وتصدق أنه عبدالناصر، والحقيقة أن لا تشابه بين عبدالناصر والسادات في أي شيء، تراه المحامي فتقل ونعم المحامي! تراه الشاب الطموح المقهور فتبكي معه، تراه طبالا وراء راقصة فتجد نفسك منساقا وراء رغبته طوال المشاهدة؛ فماذا بينك وبين الله حتى امتلكت هذا القدر كله من الموهبة والنجاح؟!
وإذا بحثنا عن دليل آخر على ذلك القالب، نصل إلى الفنان محمود عبدالعزيز؛ فكان في البداية شابا وسيما يمتلك حضورا طاغيا أمام الكاميرات فقط، ولو اكتفى بذلك لم يكن لنجمه أن يسطع إلى يومنا هذا؛ حيث أدرك هذا مبكرا فاهتم باختيار أبعد الأدوار عن هيئته وأتقن تقمصها، حتى وصل إلى تقديم شخصية الشيخ حسني في فيلم "الكيت كات" والذي استطاع به خطف جائزة أفضل ممثل من صائد الجوائز النجم أحمد ذكي والذي أصر على تقديم تلك الجائزة بنفسه، فكان الفيلم علامة فارقة في تاريخ محمود عبدالعزيز.
كل هذا جميل. هذا فن بديع يُحترم. ولكن يجب الاعتراف بأن هذا الفن ما هو إلا مجرد وسيلة للوصول إلى غاية أسمى وأرقى، فهو ليس غاية في حد ذاته.
فإن لم تُطوع السينما في خدمة المجتمع من إظهار للظلم بكل ألوانه وأشكاله، وتسليط الضوء على أهم الإشكالات النفسية التي يعاني منها أفراد المجتمع في وقتنا الحالي، بل ومحاولة إيجاد حل لتلك القضايا والمشكلات التي تؤرق كل فئات المجتمع القليل منها والكثير، تفقد السينما رونقها وقيمتها وتأثيرها القوي على النفس، فعندما كان هناك فيلم لفريد شوقي يسبب تعديلا في القانون وآخر لفاتن حمامة يثير جدلا في قانون الأسرة، كان هناك سينما حقة.
ولكن عندما أصبحت السينما مفرغة. أصبحت غاية وليست وسيلة. عندما أصبح الإسفاف مثيرا اجتماعيا يجذب الملايين إلى قاعات السينما. عندما انشغل أهل السينما بجمع الأرباح. عندما اختلطت نواياهم بين خدمة المجتمع وجمع المال. عندما لم يصبح تقديم فن حقيقي أولويتهم القصوى... انهارت السينما وإن أبدت تقدما ونجاحا
ولكن الأمل وكل الأمل في جيل جديد محب للسينما يسعى لإخراجها من نكبتها الحالية وإعادتها إلى طريقها الصحيح ومكانتها المستحقة.
التعليقات