صدرت عن دار الشروق المجموعة القصصية صيَّاد النَّسيم للمبدع محمد المخزنجي، المولود في المنصورة، والمتخرج في كلية الطب بجامعتها، وقد تخصَّص في الطب النفسي بأوكرانيا، ثُمَّ هَجَرَ العمل الطبي إلى الصحافة الثقافية محررًا علميًا لمجلة العربي، ثُمَّ أصبح كاتبًا حرًا.
يعرض لنا المخزنجي في أول قصص المجموعة (كيف صرت طاهيًا ماهرًا في ليلة واحدة؟) مفهومًا موازيًا للطهي وفن التعامل مع الطعام، فالطهي في هذه القصة بمثابة الحياة، وراوي القصة يبدو أنه اكتشف الطهي/ الحياة، فجأة، تَفَجَّرَت عنده دفعة واحدة في شمول كامل، فبمجرد التذوُّق صار يكتشف الأسرار الكامنة في الطهي/ الحياة، يُغمض عينيه ويتذوَّق ويبدأ فعل المخيِّلة بإنجاز إضافات على حياة الطعام، فتصبح أشهى لأنه أضاف لها طعمًا يخصه هو.
في غمار روعة اكتشافه المفاجئ يدخل إلى التأثير على أبنائه، فمن أخصّ خصائص الأم أن تصنع الطعام لأسرتها، تكتشف أن أولادها يحبون طعامه هو، ويهتفون له: "يعيش بابا شيف مصر العظيم، يعيش، يعيش، يعيش". يكشف عن الصراع الداخلي للزوجة والتي لا تستطيع إخفاءه تمامًا، فالطبخ بالنسبة لها كامرأة يعني حياتها داخل الأسرة، فهي التي تُغَذِّي حياة أسرتها، وتُطْعِم من حولها، فيستمتعون بطعامها، فأن تشعر أنك أنت الذي تُقَدِّم طبق الطعام وأنك تشارك هذا الذي يأكله دمه وعروقه، وتدخل بطعامك لتلافيف خلاياه، يعطيك نشوة سحريَّة، خصوصًا إذا كنت تُقَدِّم الطعام لأولادك، والزوجة تشعر بالحَرَج من تفوُّق زوجها ولا تستطيع مقاومة سحر هذه الموهبة التي حطَّت فجأة عليه، فالزوج صار يمتلك تقديم الطعام الشهي، الحياة اللذيذة في صورة طبق طعام، تهمس: "والله طيب، طيب جدًا" لكنه يُذَكِّر أولاده بالأطباق الشهيَّة التي تقدمها الأم حتى ترتفع روحها المعنوية.
هو سعيد باكتشاف تلك الموهبة فجأة .. (ولست أنكر اغتباطي بحلول هذه الموهبة عليَّ أو تَفَجُّرها في نفسي، لكني أبعد من ذلك أحس بالدهشة حيالها، بل بالغموض الذي أحاول إضاءته لنفسي قبل أن أضيئه للآخرين ص 11).
اكتشفَ الموهبة في لحظة حزن شفيف، عندما اسودَّت الدنيا أمام عينيه بموت شاعره المفضل، عند بائع الفلافل بالسمسم، والذي كان يمارس عمله بكل الحب، وهو يردِّد لحنًا مُشِعًَّا أثناء حركة عمله الدقيق المتناسق، يُغَنِّي وينشر الفرح على أطباق الفلافل وأعواد البقدونس، وحلقات الطماطم، يكتسب كل ما يمسه فرحًا علويًا، هذا الرجل أتى من الاسكندرية بعد أن انهار بيته على كل ما له في الحياة: أمه، وأخته، وأسرته، وزوجته، وأطفاله. ومع ذلك أتى إلى القاهرة يبيع الفلافل، يقدمها للناس بفرح ويمنحهم السعادة ويدندن.
الحكاية الحزينة للرجل العجوز بائع الفلافل؛ جعلته يدندن بعض وتريات الشاعر الذي يحبه، وظل يدندن مع أول إفطار يقوم بتحضيره في اليوم التالي، ظل يُغَنِّي للطبق وللبيض المقلي ولرشة الفلفل الأسمر والملح، يُغَنِّي لشرائح الخبز، يُغَنِّي لأي طبق يصنعه ويقدمه لعائلته، لقد صار الطبخ وتقديم الطعام مصدر بهجة له، صارت حياته أغنية بفضل هذا العجوز النحيل الذي فقد عائلته ورغم ذلك سيطر على حزنه بالأغنية، وانتقلت بَهْجَته وفَرَحَه من طبق الطعام إلى من يُقَدَّم إليه هذا الطبق، فصار كل من يأكل طعامه يشعر بسعادة لا يعلم مصدرها، لقد صار يُقَدِّم بهجة الحياة في طبق طعام شهي.
هل يمكن للميت أن ينال رغبته الأخيرة، وأن يفعل ما يسعده وهو على خشبة النعش؟! هل يمكن أن تتحقَّق لحظة سعادة لإنسان ذاهب إلى القبر محمولًا على الأعناق؟! أن يسترد كل حريته التي فقدها طوال حياته.. يستردها فجأة في دقائق معدودة يتنسم فيها هواء الحرية ثُمَّ يدفن وهو يبتسم.. هذه هي الروح الشفيفة التي ندخل إليها بعمق ونحن نطالع قصة (ابتسامة أم كسينجر الوحيدة) وهي النور الذي رآه الرجال وهم يحملون نعش أمهم أثناء سيرهم بها ناحية مثواها الأخير.. كانت الجنازة تَمُر على الكورنيش واكتشف ولداها التوأمان أنها (ربَّما لم يتح لها أن تمشي في شارع الكورنيش منذ عشرين أو ثلاثين سنة، ولم تر النيل ولا الفلايك السابحة على صفحته ولا طيور النهر المختلفة فوق الماء، ولا الأشجار الوارفة والنخيل العالي على ضفتيه ص 29) هي لم تغادر الحارة، بل لم تغادر بيتها ذاته، كيف تصوَّر أبناؤها الثمانية أن يُحْضِروا لها كل طلباتها للبيت ويحرمونها من رؤية الدنيا، كانوا يسجنونها، اكتشفوا أنها تؤدي عملًا بحجم الأشغال الشاقة، اكتشفوا أنهم حمير.
قرَّروا أن ينطلقوا بالنعش، بسرعة خاطفة، كأنها ستطير، أو كأنهم يريدون لها أن تطير، انطلقت السيارة بالنعش، لا تعبأ بإشارات ولا بالاتجاهات، كان الرجلان وهما يشاهدان روعة الشوارع يبكيان حظ أمهما القليل، ومَرَّت السيارة عبر الشوارع، وهبط التوأمان ملتفتين بكل جوانحهما لنعش أمهما في صندوق سيارتهما الجيب، ورأياها تضحك، بلا صوت، رددوا: الحمد لله، ودَّعت فرحانة.
لحظة شفيفة لميتة، تضحك لأنها رأت العالم، ثُمَّ يأتي الطبيب، يفسر هذه الضحكة، ضحكة أم كسينجر الوحيدة بأنها كانت مجرد تقلُّص ميكانيكي، هذا الكلام كاد يُفْقِد الأخوين صوابهما، كيف يمكن للدكتور أن ينزع إحساسهما بأن أمهما رحلت عن العالم فرحانه بكلمة قاتلة قالها؟ ضحكة ميكانيكية!! لقد جَرَّدَ الدكتور ابتسامتها من كل معنى، ضحكة الأم السعيدة التي أراحتها وهي في الموت، لولا الناس لهجما عليه، لماذا يريد نزع الراحة التي شعرا بها والأم تودِّع الحياة؟! ابتسامتها هذه ستمنحهم السكينة، وستجعلهم في راحة، فقد فعلوا ما أسعد أمهم حتي وإن كانت على النعش، اعترف الدكتور بأنه غلطان وظلا يردِّدان (رُوح، إخيه عليك ضكتور حمار، قال ضحك ميكانيكي قال، ص 32) ويتركنا ننعم مع الأم التي ودَّعت الدنيا وهي فرحانة، لأنها فقط شاهدت الشوارع بمشاعر مُحَلِّقة وقلب تذوَّق حريته في آخر لحظات الحياة.
الانسان لا يرغب في أن يرى أحد ما في داخله وكأنه تحوَّل أمامه إلى مخلوق من زجاج حي، يشف جلد الزجاج عن كل ما في داخله من عجيب وجميل، أو مقزِّز وقبيح، يكسر الانسان هذا الذي يكشف أسراره، لهذا يرهبه الناس، يريدون حبسه لأنه فضح أسرارهم ومخازيهم.
نرى في قصة (مقتل ساحر الزجاج) إنه يرى ما لا يراه الآخرون، ويعرف ما لا يعرفون، فالطفل الراوي في القصة شاهد حادثتين لساحر الزجاج، كشف فيهما أعماق لص كان يسرق دون أن يعلم أحد، وكشف أعماقه هو كطفل عندما كان يصطاد بخياله السمك، تذكَّر هذا، عندما أراد رؤية مجنون الغيوم الذي له كرامات.
المجتمع الذي يعج بالأحقاد يرفض هذا الانسان الشفيف، الذي تتحوَّل أمامه كل الأشياء لزجاج يرى ما وراءه، فكان لابد أن يختفي، ولا يعلم أحد أين ذهب، إلا أنه في النهاية يؤكد رفض المجتمع القاطع الحازم لمثل هذا الذي يرى مالا يرون، فالمجتمع سادر في غَيِّه، يريد أن يعيش في أكذوبة كبيرة مَخْفيَّة لا يراها أحد، لذلك كان الراوي مؤمنًا تمامًا بأن ساحر الزجاج قد قُتِل ولم يختف، قُتِل بطريقة ما ولم يحدِّد الطريقة، فقط يؤكد.. قَتَلوه.
في قصة (صيَّاد النَّسيم) نرى ارتفاع درجة حرارة السكن تؤدي للتوتر والقلق، وتخلق عصبيَّة طارئة، وإذا كان حسن فتحي قد قال(إن رفع درجة الحرارة داخل البيت 17 درجة مئوية متعمدًا، فإن الله لن يغفر له مطلقًا ص55) ينبع هذا القول من إدراك راحة النفس وعدم الضغط عليها بمزيد من الحرارة والكتمة، في مدينة بها ملاين السيارات التي تنفث الصهد والعوادم، تجعل سكانها يشهقون من صهدها، ويزفرون الصهد، مدينة هي جزيرة حرارية جهنمية لا رحمة فيها حتي مع حلول بعض الرحمة في المساء.
تبحث قصة صياد النسيم طوال العمل عن نسمة هواء طَريَّة، تردّ الروح، وتبعث السكينة، فقط نسعي لصيد نسمة هواء بكل الطرق، خصوصًا إذا كانت الشقة قِبْليَّة، بلا هواء، يمكننا في سبيل نسمة هواء أن نخفي ألوان الستائر الزاهية بزهورها المبهجة، ونجعلها سوداء قائمة حَتَّى لا يدخل الضوء وساعتها سنتحوَّل لسجناء داخل بيوتنا من أجل نسمة هواء.
تبرق في رأس المهندس راوي القصة فكرة؛ عندما تذكَّر ما قاله حسن فتحي عن المَلْقَف، أو مصيدة الريح، ليصطاد الريح القويَّة النقيَّة عن طريق فتحات مواجهة لجهة هبوبها من زاوية مناسبة، وبالفعل صنع مصيدة للنسيم ونجحتْ نجاحًا مذهلًا، واصطاد النسيم، وتحوَّلت الشقة إلى ربيع عن طريق الماسورة الطويلة التي تَصِل لأعلى البيت وتَلْقَف النسيم من الهواء النقي.
لن يستمر النسيم في هذه المدينة الخانقة، فقد فوجئ المهندس بلصّ محشور داخل الماسورة التي يصطاد منها النسيم، صارت الماسورة تصطاد اللصوص، واللصّ كان في حالة حَصْرة بولية شديدة. يا للمصادفة، المدينة تعاني من الصهد، لصّ المدينة محصور، ومحشور داخل مصيدة النسيم.
لم يكن هناك مفر من سد مصيدة النسيم، لأن اللصوص سيدخلون عبرها، هذه المدينة التي تسرق النسيم، أَحْضَر الرمل والجبس والإسمنت، وسَدَّ شُبَّاك النسيم سدًا محكمًا، يصعب اختراقه وعادت الشقة بلا نسيم تفح الصهد.
تدخل بنا قصة (وَزَّة نهاية العالم) لقلب سيد موميا، الذي يعيش كَمَيِّت حَتَّى إنه عندما يسمع أن العالم يوشك على النهاية يتمنَّى زوال العالم من كل قلبه.
يمثل سيد موميا قطاعًا كبيرًا من المُهَمَّشين في الحياة، فحين تبدأ هوجة أنفلونزا الطيور ويجد سيد موميا وَزَّة يأخذها لابنته العمياء، لم يكن يهمه أن يموت من الأنفلونزا، كان كل همه أن يفرح ولو يومًا واحدًا في الحياة، نعلم على لسان ظريف من ظرفاء الحي أن السيد موميا قد مات من قَبْل، وعندما سَمِعَ صوت صراخ ابنته من أجله؛ قام من الموت وخرج من الكَفَن، هذا الذي يستهين بالموت ويتحداه من أجل ابنته يحمل الموت على يده ببساطة، وَزَّة ربَّما تكون مصابة بأنفلونزا الطيور القاتلة، يقدمها لابنته من أجل لحظة فرح وحيدة، سيد موميا هذا تراب أصيل من تراب الفراعنة، الذين كانت مومياواتهم تُهَرَّب إلى أمريكا في القرن 18 في قيعان أكياس من مومياوات قدماء المصريين وتباع كإكسير سحري لاستعادة الشباب واكتشاف القوة الخارقة، سيد موميا الذي يحيا كَمَيِّت، والذي يتمنَّى الموت، والذي هرب من الموت، هو إكسير الحياة.
لمَّا يشعر الانسان أن السرطان يهاجمه؛ تبدأ روحه في الانكسار ويبدأ في تَخَيُّل هذا السرطان ينهشه في كل وقت، يقرأ عنه، يبحث عن أسراره، وتكاد الدنيا تظلم أمام عينيه، ففي قصة (ننتظر ونراقب) لحظة كشف.. ستموت، ماذا استفدت من حياتك؟ ماذا فعلت بها؟ لو عادت إليك حياتك ماذا ستفعل بها؟ يستيقظ البطل على عدم إصابته بالسرطان، وأن ما كان يظنه الأطباء صار وهمًا.
يُسْرِع في لهفة لالتقاط القبلات من زوجته التي تَفَجَّر حُبَّه لها في لحظة كرهه المقيت للسرطان، لم يعد يعيش حب رجل تعدَّي الخمسين، بل حب غض الشباب، استعاد نضارته، يخطف ضَمَّة ويختلس قُبْلة، ويتصرَّف تصرفات الصغار، وقد أدرك تمامًا أنه حين لم يفعل ذلك من قبل لم يكن عاقلًا بالمَرَّة، فالعقل أن يخطف لحظة سعادة من هذه الحياة ويختزن كل الكلام في ابتسامة، نظرة حب، رغبة، ويظل يعب الحياة التي شعر للحظة أنها ستؤخذ منه، لقد وجد الحياة، وراجع كل تصرفاته فعلم أن الحياة يجب أن تُعَاش.
في قصة (خمسون صوتًا تحت شمس الشتاء الصغيرة) نتابع تسعة وأربعين سجينًا في ظلمة، فقط كل ما يرغبونه أن يحصلوا عليه هو طابور شمس، بعد حبسة الانفراد والعتمة، يتحدثون بسريَّة داخل المعتقل ولا يسمع حديث المعتقلين سواهم، وعندما يكتشفون في الشمس أن هناك سجينًا لا يعرفونه يعيش معهم في زنزانة مجاورة لهم ولم يتحدث أبدًا، ولم يعلن عن نفسه؛ يقرِّرون ضربه بقسوة، فقد يكون جاسوسًا، وفي اللحظة التي يدخلون عليه ويرفعون قبضاتهم للانتقام منه، خَرَجَتْ مِن حَلْقِه صرخة مَن لم يتكلَّم مِن قَبْل أبدًا، صرخة مرعوبة ومرعبة، فتراجعوا بعريهم الإنساني وخزيهم وتساقطت عصيهم وقبضاتهم، وراح هو في نحيب مجروح وجارح سيظل يطعن كل القلوب التي لا تلمس للإنسان وجوده الصامت الأخرس وستظل الانسانية تلعن هذا التواطؤ والاتفاق على إنسان لا يعرفون حقيقة صمته.
الضابط الذي وقع على وجهه لم ينج من أثر الارتطام، في قصة (سيل الليل) هو مريض صرع مزمن تأتيه نوبات تشنج كبرى، في صحوه يُغْرِق أرضية السجن بالماء ويأمر المساجين بنظافة العنابر، لمَّا اكتشف الطبيب النفسي السجين مرض الضابط بالصرع فَكَّر أن يستخدم معلوماته الطبية لإصابة المريض الضابط بنوبة صرع، فيفضحه أمام الجميع، ظل نصفه السجين يصرخ داخله أن يفعل، ونصفه الطبيب الذي ردَّد قَسَم أبو قراط بشرف مقاتلة المرض، واستخدام الطب للخير، كيف يسمح بإحداث متعمَّد للمرض، واستغلال وحشي لعطايا الطب؟!
صراع داخلي بين الطبيب وذاته ينسحب على كل مهنة يمكن أن يستغلها الإنسان في غير غرضها الأصلي، وشرفها الخاص، وتنتصر روح الطبيب في صراعه مع ذاته السجينة في الوقت الذي يعلن فيه الضابط أنه لا يريد عقاب المساجين برش خراطيم المياه وطلب مسحها، وساعتها يكتشف الطبيب أن عملية تجفيف الماء التي كان يقوم بها عن غصب وكاد أن يصيب الضابط بأزمة صَرَع من أجل أن يتوقف، كانت تجعله يسقط في النوم سريعًا دون أرق يشعره بسجنه في الليل فبات يفتقد مُنَازلة الماء.
العري مقابل الحرية هو قلب قصة (عارية على حصان أمام البرلمان) والعري هو الحرية المطلقة، فتاة عارية فاتنة تمضي بحصانها المُطَهَّم في طريقها من ميدان التحرير لميدان البرلمان تستدعي حدث الأميرة "جوداييفا" التي يعني اسمها عطية الرب، أو هبة الله.. عندما رفض زوجها - الأمير ليوفيرك حاكم إمارة كوفينتري الواقعة غرب وسط انجلترا في القرن الحادي عشر- تخفيف الضرائب المُبَالغ فيها والتي فرضها على رعاياه، فَأَلَحَّت عليه أن يخفِّف عن رعاياه العبء فقال: (لن أستجيب لِمَا تطلبينه لهؤلاء الناس حَتَّى لو سرتِ عارية على حصانك الأشهب في شوارع الإمارة ص 144).
وخَرَجَتْ الأميرة عارية، وحَرَّرَت الناس من الضرائب، ويحيلنا مشهد فتاة التحرير لهذا العري التحرري الذي يحرِّر أرواح الناس.
محمود يستعمل حقه في أن لا أحد يستطيع أن يجعله يترك الكرسي الذي يجلس عليه حَتَّى لو كان من المخبرين، من السُلطة ذاتها، ففي قصة (كرسي يمشي على رجلين بكبرياء) يقف محمود أمام سُلطة المخبرين ويرفض أن يقوم من فوق الكرسي.. لقد أخذته السُلطة لفترة طويلة، وعاد يمشي على هذا الوضع الغريب المضحك المبكي، وَضْع إنسان يَتَّخذ شكل كرسي حي يمشي على رِجْلَين، لقد حَوَّله اعتراضه إلى مسخ، وثبت على وضع اعتراضه، فالمعترض على السُلطة، سيتجمَّد على وضع اعتراضه، سيصبح مَسْخًا، من أجعل اعتراضه، إلى شكل يمكن أن يضحك عليه من كانوا يعجبون باعتراضه، وكأنه يقول إن السُلطة ترسل رسالة لكل من يعترض بأن هذا جزاء من يعترض، سيصير كرسيًا حيًا متحركًا، سيصير مسخًا.
طريقة خاصة لمقاومة السُلطة، جديدة وفعالة وفريدة، نجدها في قصة (مروحة التراب) فهذا الذي أخذته عربات الشرطة في صناديقها الحديدية كمتسوِّل تم جمعه من الشوارع، عندما تجمَّع عليه المخبرين راح يصرخ بأنه ليس بسارق ولا قاتل، فطرحوه أرضًا، وراحوا يركلونه بأحذيتهم الميري الثقيلة، لكنه لم يهمد، كانت ركلاتهم تجعل أقدامه ترفس بشدَّة وهدوء في اتجاه عقارب الساعة، وتحوَّلت حركات قدميه إلى ما يشبه قصقصة شفرتي مقص جنوني، صار المخبرون يَهْوُّن على الأرض من رفساته ويتخبَّطون ويضربونه بشراسة، كما لو كانوا قد قرَّروا موته.
لقد هَزَمَ المخبرين الذين راحوا يضربون من شاهدو ما يحدث؛ كي لا يبوحون بما شاهدوه بالخارج ويعلم الناس أن السُلطة قد وَقَعَتْ على الأرض من جراء شخص وحيد اكتشف طريقة غريبة في المقاومة، أن يكون مروحة.
التعليقات