مات أبي فأحضروا لي نظارته. وضعتها أمامي أتأملها فهي لم تكن تفارقه. كان يرى العالم بهذه العدسات. قال الناس عني أني ورثت عنه الكثير من الصفات. كنت أتبع خطاه وأحذو حذوه فأحترم مواعيدي فلا أصل متأخرة أبدا ولا أنطق إلا الصدق. علمني أبي الكثير والكثير من محاسن الأخلاق. لم يكن يحترف الكلام بل الأفعال. لم يعلمني بطول تشدق ولا خطابات رنانة. لم يعاقبني ولم يصرخ حتى في وجهي. لم يغضب مني لسوء تصرف بل ترك لي عقابا شديدا متمثلا في رؤية عواقب الخطأ وقد كان كافيا لي مقارنة المشهدين المتناقضين.
ها هي نظارته أمامي. لم يعد يلبسها ولم يعد يرى العالم من خلالها. أمسكتها بين يدي. قلبتها في هيبة. ترى لو وضعتها أمام عيني هل أرى الحياة كما رآها هو. كان أبي زاهدا في الحياة؛ حكيما يجيد صوغ كلماته لتصيب المقصود دون ملل أو تكرار. يكفيه من الدنيا القليل. لم يسعَ وراء مظاهر خادعة ولا حتى صادقة. ترفع عنها برمتها ولم يخض في سفاسف الأمور! كانت ملابسه قليلة وكذلك كان طعامه.
رفعت النظارة على وجهي. لنر إن كان عالمه يشبه عالمي. أدرت رأسي يمينا ويسارا: سأختبر كل ما يحيط بي وأعرف إن كانت المشاهد واحدة والتفاصيل متماثلة. أراني من خلف عدسات أبي وأرى إخوتي. رأيته وهو أبو العروس ينظر بمزيج من الحسرة والفرح. كم كان فرحا يومها وكم كان متهيبا لمفارقة ابنته التي لم تبرح حضنه منذ ولادتها. هاهو يسلمها لغريب سيحل محله. أخبرتني العدسات أن الدموع بللتها كثيرا في هذا اليوم وأنه لولا وجودها لكشف ستره وفضح ضعفه.
من وراء عدساته رأيتني وإخوتي. كم كان حساسا لا يطلب أي شيء منا ولا يحملنا ما لا طاقة لنا به. كان يرى كم نحن مهمومات بأطفالنا ومشاغلنا فلا يثقل علينا. كثيرا ما تشاجرت معه أن حساسيته المفرطة تكبلني ولا تريحني كما يظن. أريد أن أساعده فيمنعني تحت دعوى انشغالي حتى وأنا أشترى حاجيات المنزل لا يطلب شيئا لنفسه بل يهرع للسوبرماركت فور مغادرتي لها! أراني من وراء عدساته مكبلة فلا يريد إلا التخفيف عني. أرى إخوتي كذلك وقد طحنتهم الحياة هم أيضا لذلك قرر ألا يزيد من وطأتها علينا جميعا بمجرد طلب المرور عليه لزيارته!
أدير رأسي في اتجاه آخر فأرى الحياة وقد فقدت بهجتها بوفاة أمي منذ بضعة سنوات. كان يرى رحلته في الحياة وقد شارفت على الانتهاء فلا يبكي عليها ولا يرغب فيها. بالنسبة إليه أيام تلو أيام حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. من وراء نظارته أرى الناس وقد تكالبوا على مصالحهم وتحزبوا وتفرقوا وكثرت شجارهم وجدالهم بينما يكتفي بابتسامة رضا وحكمة: كل هذا إلى زوال فلماذا لا نعيش في سلام. أيها الناس! اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
لم تمر حياته بسلام تام رغم كل شيء. عصفت به الأيام واشتدت عليه المحن. أجبرته فتنة تعرض لها على اتخاذ مواقف استنكرها الكثيرون وهلل لها آخرون. تعجب البعض من ردة فعله إزاء بعض المواقف بل ومن قراراته التي رأوا أنه لم يحالفه فيها الصواب. أنا الآن أملك المشهد من وراء عدساته. لأرى الآن الموقف كاملا من وجهة نظره التي ربما لم يرد شرحها لنا أو تقديم مبررات وافية. الآن الرؤية جلية لا زيف فيها ولا مجاملات. لقد شعر بالضعف. حق بشري لا غبار عليه. اجتمع عليه الضعف والخوف على من يحب فطوقاه وألجماه عن التصرف وفقا لما يعتقد الجميع. كان تصرفه غير متوقع لكنني الآن أرى بوضوح وأعلم مبرراته. لم يقصد أذى بل قصد كف الأذى عن من يحب. لم يكن حازما وربما يكون منحازا. الآن أدرك أنه لم يكن بطلا أسطوريا خارقا بل أب تضعفه دمعة من فلذة كبده حتى وإن لم يكن على يقين بصدقها. كان بشرا يخطيء ويصيب هكذا أخبرتني عدساته.
ألبس نظارة أبي الراحل وأعيد تقييم الكثير والكثير من المواقف التي مرت علينا معا. كنت أراها من منظوري بينما رآها هو من منظور آخر. لم أعد غاضبة ولم أعد متعجبة. ليته أعطاني نظارته وقتها فربما تغير الكثير!
التعليقات