ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن كلية الآداب، ومن المؤكد أنها ليست الأخيرة، وبلا ملل أو رتابة؛ فمثلما تغنى الكثيرون بحب مصر ولا يزال هناك متسع لمزيد من الغناء لكثرة تفاصيلها المبهرة التي تجبرك على حبها أكثر وأكثر يوما بعد يوم، فإن كلية الآداب لها من البريق والتاريخ ما يترك الأثر نفسه.
ظهرت كلية الآداب عندما بدأت الجامعات في الظهور لأول مرة في العصور الوسطى، وكانت واحدة من أربعة أقسام موجودة وهم الطب والقانون والإلهيات والآداب، وكانت كلية الآداب صاحبة نصيب الأسد من الاهتمام والتقدير من بينهم، فكانت دراسة الآداب واجبة، ونجاحك بها هو ما يؤهلك لدراسة الطب أو القانون أو الإلهيات.
أدركوا منذ البداية أن لا قيمة لإنسان لم يهذب روحه بالفنون وعقله بالآداب، وأن لا معنى لطبيب أو رجل قانون أو رجل دين أو رجل أي مهنة آدمية قديمة كانت أو معاصرة بلا روح وعقل، فكيف ينبت العلم ويثمر في عقل بور يفتقر لكل متطلبات التربة الصالحة للزراعة؟
إن دراسة الآداب ما هي إلا تطبيق للتثقيف القسري. أنت هنا ليس لأجل شهادة أو وظيفة. أنت هنا لتتعلم ماهية الإنسانية. أنت هنا لتكون إنسانا بمعنى الكلمة. أنت هنا لكيلا تحيا كإنسان غابة بدائي لا يعرف غير تلبية رغباته وشهواته الأساسية في الحياة.
فإذا أردت دراسة لغة ما في كلية حديثة من كليات دراسة اللغات، ستجد الاهتمام بالنطق السليم والكتابة الصحيحة والترجمة في أبهى صورها، ولكن حين تذهب لدراسة اللغة نفسها ولتكن اللغة الإسبانية في كلية الآداب، ستجد بالطبع اهتماما باللغة كتابة ومحادثة وترجمة، وإلى جانب هذا ستدرس تاريخ أرض اللغة المنشودة مثل تاريخ حضارة بلاد الأندلس، ستدرس الرواية والقصة القصيرة في الأدب الإسباني، ستدرس المسرح الإسباني، فتأخذ اللغة بتاريخها وأدبها وفنونها فتتخرج من كلية وأنت أقل ما يُقال عنك "أنك مثقف باللغة".
وعند النظر إلى باقي أقسام كلية الآداب، سنجد تخصصات أدبية من تاريخ وجغرافيا وإعلام وعلم نفس وفلسفة وعلم اجتماع وغيرهم، وكلها أقسام يمكن إيجاد مثيل لها في كليات أخرى، ولكن شتان الفرق بين كلية تعلمك كيفية تدريس مادة التاريخ أو الجغرافيا، وبين كلية ينصب اهتمامها بالكامل على المنهج الأكاديمي، فتخرج وأنت حامل لعلم حقيقي، أما بعد ذلك فهو عليك؛ فافعل ما شئت في حياتك المهنية.
فكيف أتى اليوم الذي نرى فيه كلية التثقيف والتفكير، كلية الأدباء والمفكرين، كلية الآداب والفنون، كلية مهمشة لا يدخلها أحد برضاه، بل وأصبحت سبب تقليل ومهانة لطلابها، بعد أن كانت سببا كافيا للتفاخر؟
كيف تفوقت العلوم على الفنون والآداب؟ كيف أصبحت الماديات أهم من العقول والأرواح؟ ماذا سننتظر من جيل يُساق بكل جوارحه نحو نكبة التطور؟ كيف سيكون هؤلاء الشباب الذين لا يعلمون من الدنيا غير الأرقام والمعادلات آباء وأمهات؟ كيف سيخرجون النشء؟ وعلى أي أساس من قيم ومبادئ سيديرون حياتهم اجتماعيا وسياسيا؟
وللحديث بقية ....
التعليقات