بعد العودة من الرحلة الكورية بأيام، جاءني اتصال تليفوني من مكتب رئيس التحرير، أخبرتني سكرتيرته بأن أجهز نفسي للعمل بالمجلة، فقرار التعيين على وشك الصدور. شكرتها، وأخذت أعد العدة.
وعلى الرغم من زياراتي المتعددة للخليج، وعملي السابق بالرياض فقد أدركت أن هذه المرة الأمر مختلف، صحيح أنني عملت رئيسا لتحرير عدد من المجلات من قبل، ولكنها كانت مجلات شديدة المحلية، أو شديدة الإقليمية.
كانت أول مجلة أرأس تحريرها، مجلة حائط عندما كنت طالبا في كلية التجارة جامعة الإسكندرية، كان اسمها "دعوة للتأمل"، لم أعرف الآن لماذا اخترت هذا الاسم. وكانت هي مجلة الحائط الوحيدة التي يستمر تعليقها لأسابيع حتى صدور العدد التالي، بينما مجلات أخرى يصدرها زملاء آخرون لم تعلّق سوى يومين على الأكثر، ولا أحد يعرف من الذي كان يرفعها أو يمزقها من على حائط الكلية المخصص لنشر مجلات الحائط.
كنت أنشر في هذه المجلة الحائطية التي كنت أعدّها بنفسي وأكتبها بخط يدي، قصائد لي، ولغيري من الأصدقاء الشعراء من جيلي، ومختارات من شعراء مصريين وعرب آخرين. فهل هي دعوة موجهة لطلاب الكلية والكليات المجاورة بالمجمع النظري بالشاطبي للتأمل في معاني الشعر والإبحار إلى عالم الشعراء؟ وبالفعل كانت هناك تعليقات يكتبها بعض الطلبة على أماكن مختلفة من المجلة الحائطية.
في ذات مرة وأنا أعلق عددا جديدا من أعداد المجلة، وجدت زميلة تقف بجانبي وتقول لي: طبعا لازم يتركوا مجلتك بالأسابيع معلقة، وتمزق مجلتُنا فور تعليقها. نظرت إليها وقلت لها: ممكن أتعرف عليكِ أولا.
لم تذكر اسمها ولكن أكملت حديثها فقالت: انت تظن أن الذي تكتبه أو تنشره شعرا؟
ـ أعتقد أنه شعر.
ـ لا شعر ولا كلمات لها قيمة. الشعر لا بد أن ينبع من موقف سياسي مثل شعر أمل دنقل ونجيب سرور وأحمد فؤاد نجم وناظم حكمت وبابلو نيرودا، أما (الهَبَل) الذي تنشره ده لا شعر ولا أي حاجة.
قلت لها بدون أدنى انفعال: إذن العدد القادم ننشر قصائد لأمل دنقل، فأنا قرأت ديوانه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة".
التمعت عيناها ولكنها قالت: لن تستطيع. لأنهم سيمزقون مجلتك على الفور.
ـ من هؤلاء؟
ـ إذن أنت لا تفهم شيئا، وادعوك لحضور اجتماعنا في "جمعية الدراما" يوم الجمعة بمحطة الرمل.
ـ من أنتم؟
نظرت حولها وقالت هامسة: نحن مجموعة اليسار بالكلية، وزميلنا محمود إبراهيم شاعر أيضا وهو الذي أرسلني إليك، ويقول إنك خامة طيبة وغير مشترك في أي جماعة سياسية. إذا لم تعرف المكان سأنتظرك عند كشك كتب "الرملي" الذي عند سنترال محطة الرمل ونذهب معا.
ـ أنا لا أعرف محمود إبراهيم.
ـ هو يعرفك وسمعك في أمسية شعرية بقصر ثقافة الحرية، ويعرف الشعراء الكبار هناك.
ـ انا سأحضر من أجلك أنتِ، ولكن ما اسمك؟
ـ انا اسمي درية إبراهيم.
ـ اخت محمود إبراهيم؟
ـ لا .. تشابه اسماء.
أخذت أفكر في درية ونسيت موضوع مجلة الحائط والقصائد وجمعية الدراما، وقلت إنها قصيدة خفيفة الوزن في حد ذاتها.
كانت درية ابراهيم على قدر متوسط من الجمال وذات شعر أسود قصير ولكنه ليس ناعما ولا يطير، وعينين سوداوين متسعتين وبرّاقتين، كلها حدة وذكاء، وهي نحيفة جدا، وعرفتُ أن زملاءنا بالكلية يطلقون عليها "خشبة عمود عبدالواقف" لشدة نحافتها. وكانت تعرف هي بهذا الاسم أو اللقب، وتضحك منه، وتقول في إصرار وبما يشبه التهديد والتحدي: الخشبة أفضل من الزعزوع، الخشبة تقدر عن طريقها ترزع واحدا على دماغه عندما يقل أدبه، أما الزعزوع فليّن ورخو ويميل مع الريح حيث يميل، ليس لديه موقف.
التعليقات