ذات يوم وجدتني أغادر أرض الوطن لغربة مؤقتة في بلد أوروبي. امتزجت الفرحة بالرهبة وتراءى لي من بعيد رمضان والعيدان فزادت رهبتي. مهلا! كيف سنقضي رمضان؟ لا أهل ولا آذان ولا مظاهر فرحة وبهجة تزين الشوارع. لن نسمع الأغاني التقليدية التي تنطلق في كل مكان. لا كنافة ولا قطائف! حتما ستكون شهور رمضان القادمة مختلفة تماما عما عهدته. انهالت على التساؤلات: ترى هل سأجد مسجدا هناك؟ صلاة تروايح؟ جالية مسلمة في المقام الأول؟ كيف ستكون أيام رمضان وهي منزوعة الروح والزخم؟ كان ما يشغلني هو أطفالي الصغار فأنا شهدت العديد من شهور رمضان طوال حياتي لكن ماذا عنهم؟! سيقضون ثلاثة رمضانات بمذاق أوروبي.
أنخنا رحالنا على نهر كلايد في اسكتلندا تلك المدينة الغائمة الممطرة طوال العام. توالت الشهور حتى هل علينا شهر رمضان. عاد ابني ذو الثمانية أعوام يوما من المدرسة بخطاب من المديرة. رسالة تهنئة رقيقة بالشهر الفضيل واستفسار عن طقوس الولد في رمضان وما إذا كنت أفضل أن يعلب مع أصدقائه أم يجلس في فترة الاستراحة في المكتبة ليقرأ كتابا حتى لا يشعر بالتعب أو العطش. لم تكتف المديرة بهذا بل سألتني في حالة اختياري للقراءة ما إذا كان هناك كتاب محدد خاص بالشهر الكريم أم أنه يمكنه اختيار ما يشاء من كتب المكتبة. أنهيت الرسالة في مزيج من الدهشة والتقدير لتقبلهم للآخر الذي هو نحن المسلمين بعاداتنا وشعائنا الدينية دون غضاضة بل وبكل ترحيب. حتما رمضان مختلف!
وسرعان ما وجدت جالية مسلمة لم أكن أعلم بوبجودها. وطن عربي كامل اجتمع في هذه البقعة الأوروبية البعيدة. جمعتنا موائد الإفطار الجماعي على أكلات عربية شهية من المطبخ العراقي، واليمني، والشامي، والجزائري والمصري الأصيل بالطبع. وجدنا السلوى عن الاغتراب والبعد عن الأهل في الالتفاف سويا حول طعام وكلام وذكريات وتبادل لحكايات عن الوطن ورمضاناته.
وعلى نطاق الأصدقاء المصريين كان رمضاننا مختلفا بأطباقه المميزة ولم تبخل علينا التكنولوجيا الحديثة بقنوات الإذاعة المصرية ووصفات الحلويات. الحاجة أم الاختراع وأم التجريب أيضا. بدأت كل واحدة من الزوجات في التفنن في صنع عجينة القطائف بل والكنافة أيضا فالحصول عليهما كان مستحيلا والبديل هو صنعهما من العدم. كانت الوصفات تنجح أحيانا وتفشل أحيانا أخرى لكن لم نهتم إلا باللمة الحلوة ومحاكاة أجواء الوطن البعيد.
مرت السنون وانتهت الغربة وعدنا لأرض الوطن نملك ذكريات وحكايات لا تنضب. عشنا رمضانا مختلفا لم ينقصه إلا صوت الآذان ومدفع الإفطار. جمعنا المسجد المركزي في صلاة التراويح وموائد الإفطار متعددة الجنسيات. اختلفت الأرض واختلفت الوجوه لكن بقي رمضان موحدا للجميع في مشارق الأرض ومغاربها.
التعليقات