انطلاقة في عالم الخيال الواسع، عالم الأفكار والمشاعر، استشعار الخط الفاصل بين الحلم والحقيقة، بين الخيال والواقع في محاولة لدمجهما معا بمحو هذا الخط الرفيع بممحاة المعرفة والاستكشاف.
كل هذا وأكثر قد يحققه كتاب صغير مترب على رف عُلق على حائط غرفة في بيت متواضع يقبع في قرية نائية بعيدة. لننفضن عنه ما علاه من غبار الإهمال ونبحر بين صفحاته نقلبها ونتقلب بين سطورها فنطفو وتحلق نفوسنا بعيدا إلى أبعد المجرات، نتواصل مع أعجب المخلوقات، نقطع سنوات ضوئية ونعود في لحظات، أو نغوص في أعماق النفس البشرية نبصرها ونُجَلِّي غموضها أو نرتحل إلى عوالم خفية علوية وسفلية في تجوال بين الماضي والحاضر والمستقبل، وسيلتنا في ذلك ليست سفن الفضاء ولا آلة الزمن ولا تمتمات كاهن يتقن العرافة، لكنها بضعة أسطر خُطت بيمين مبدع خلاق يعرف كيف يصيغ الكلمات و ينتقي المفردات ليوصل فكرته العميقة بكلمات بسيطة، من بلاغتها وسهولة وعذوبة معانبها ما يبلغ الغايات ويزيد الشغف للاستزادة من هذا الفيض الساحر.
في سنوات العمر الأولى جذبتني قصص الطفولة الملأى بالصور والألوان بكلماتها القليلة وجملها القصيرة، فكان خيالي يحارب عقلي حتى لا ينتهي حيث انتهى بصري فيما خُط ورُسم، فأغمض عيني وأبحر بسفينتي في عوالم الكلمات فأبصر ما خفي عن النظر، حتى أدركت أن الكلمة أبلغ وأرحب من ألف صورة، حيث تنطلق وأنت حر لا يحدك لون أو ملمح فرض عليك، فقد أودعت في الكلمات أسرار بين ثنايا حروفها القليلة خلقت عالما مختلفا بكل مفرداته. أنت وحدك القادر على رسم تفاصيله العجائبية الفريدة.
وتزداد العوالم وتتعدد المفردات والتفاصيل بعدد من يقرأون ويتخيلون ولعل ذلك ماجعل القراءة شغف يشبع تطلعات الكثيرين.
وكما ان الكتاب أفضل صديق في السفر فالسفر أفضل معلم للبشر.
في حين يخترق الكتاب الزمان والمكان بالخيال والكلام، ينفذ السفر مباشرة إلى الواقع الذي قرأنا عنه وعرفناه لنعايشه فعليا فتستمتع كل الحواس بتجارب حقيقية تزيد النهم لمعايشة ماهو أكثر وأغرب.
فالسفر متعة يدمنها كل مغامر مستكشف، يبدأ فيه بالتعرف على الحيز القريب، يتوغل فيه حيث يغطي مساحة محيطه، ثم ينطلق ليتخطى حدوده، يخالط شعوبا تتفق أو تختلف في الثقافات والعادات والتقاليد فينمي ذلك فضوله لمعرفة المزيد عن التنوع الإنساني والتمايز الجغرافي.
ولا تتوقف النفس التواقة عن الرغبة في ازاحة السُتُر عن كل ما جُهِل متطلعة لكشف ظلمة الفضاء وغموضه وأعماق الماء وعوالمه وأفراده، أو اليابسةِ المستعرة وما وراء العالم المنظور لتخطي الأبعاد الثلاثة لما هو اعقد وأبعد.
يُعمل العقل، يشغل الفكر تعينه باقي الجوارح لتوفير السبل والوسائل الموصلة لغايته، ليعود بكل ما يلهم ويبهر، فتتربى النفس على التواضع والإخبات من سعة وروعة ما سمعت ورأت، تتعلم الشوق والتوق لمعرفة ما تستطيع بلوغه من الإبداع الإلهي في الضمير الكوني فتستشعر الجلال والعظمة، توقن بعد كل ما علمت انها للجهل أقرب، وانها مهما تعلمت وظنت أنها بلغت الغاية والمنهى ستظل على أعتاب العلم لم ترتشف منه إلا بضع قطرات لا تروي ولا توصل إلى غاية التنوير، حينها فقط ستدرك أنه "فوق كل ذي علم عليم".
التعليقات