بداية من الغلاف
غلاف يحظى بتكوين تشكيلي بديع لرأس امرأة شاردة، سيلويت مضاء بتصميم لكوبري ستانلي في مخيلتها يتحول هذا المشهد إلى بوابة تفضي إلى عالم مليء بالحكايات والوقائع التي تشكل من جملتها الحياة المحبطة التي تخذل حتى أكثر المتفائلين، ترادفات وصور موازية لسيرتها مع اختلاف بعض التفاصيل لا تفرق في العمر والجنس، بل تؤكد كل لحظة اننا سائرون نحو غروب حتمي، عبور إلى آخر بصيص من ضوء بلون الآلام النازفة ومصابيح تهمس همسا مصطنعا لا ينير بل يذكر بأن ليس لنا إلا المتاح وإن كان دون تطلعاتنا.
لفتني اسم الكاتبة باللغتين العربية والانجليزية أعلى الغلاف وكأنها تقول: أنا هذا العمل ،وأنا كل الأعمال، لو لم أكن ما كانت، أنا أنا بكل اللغات.
العنوان "كوبري ستانلي "
عنوان معرف بالإضافة في بنيته اللغوية إلى جانب كونه مَعلَما معروفا في دلالته، ما يثير في نفسك توجسا؛ ماذا بعد؟ ما السر وراء هذا الكوبري؟ ما الذي جعله عنوانا وغلافا؟ لتكتشف عندما تعتليه فوق صفحات تلك المتوالية؛ أنه تحول الى خشبة مسرح؛ كل من يمر عليها يمارس دوره باتقان رغم عدم امتلاكه للسيناريو الكامل الذي يظل غيبا حتى النهاية، وإن لم يكن له قصة معروفة، إلا إن الساردة تقرأ تفاصيلها من خلال ما يرويه عقلها ووعيها وفق نص محكم لن يستطيع أصحابُه الحديثَ عنه ببراعةٍ كتلك التي تمتلكها، منحتها إياها عيناها الثاقبتان ووجدانها المرهف المنصت لأنين أرواح صُلبت على الوجع وسُلبت حقها في التألم.. هذا الكوبري هو الحياة بكل متناقضاتها وتنوعها، أليست الحياة مسرح كبير؟ كما يقول يوسف بك وهبي
تحققت كل مواصفات العنوان الجيد؛ من الاختصار والوضوح، وتكثيف المعنى ليكون معبرا عن شخصيات مأزومة.. كما سنرى
الإهداء
تهدي عملها إلى ذلك الشاطئ الذي شهد لحظة الغياب الأولى، حين ابتلعها طفلةً تقول: "فاستجاب لي الله ونجّاني من الغرق"
عنصر الخلاص الإلهي هنا يضفي بعدًا روحيًا، فنجاتها لم تكن صدفة، بل استجابة لدعاء المضطر، مما يعمّق فكرة العناية والاصطفاء. ثم تقول: "ولأثأر منه ابتلعته سطوري"
وهو قمة التحوّل الفني، فالكاتبة هنا تنتصر بالكلمة.
سطورها صارت البحر البديل — بحر اللغة — الذي يبتلع المكان القديم، ويعيد تشكيله، ويخلّده ضمن رؤيتها هي.
فالثأر هنا ثأر إبداعي: فيه تحويل الألم إلى نص، والمحنة إلى معنى.،
ها هي تعود إليه اليوم، ليست غارقة في الخوف والدمع، بل تفيض بمداد الموهبة… لتبتلعه بحروفها وسطور حكايتها، والحقيقة أنها دون أن تشعر، اتخذت من الجسر والشاطئ رمزا لا من مياة البحر، فالكوبري كرمز، هو جسر بين عالمين: البر والبحر، الأمان والمجهول، الواقع والحلم، الطفولة والنضج.
عندما تقول “ابتلعني وأنا طفلة”، فهي تصف لحظة عبور مبكر جدًا، ربما كان عبورًا قاسيًا من البراءة إلى الإدراك، من الطفلة إلى المرأة. لم نتعرف على القصة إلا قُرب منتصف العمل في ص89 من عمل يتضمن 166 صفحة
وبالنظر إلى باقي العتبات الداخلية
الفصول تحمل عناوين الموجات بما لذلك من دلالة قوية
فكل "موجة" تمثل دفعة جديدة من التجربة الإنسانية، مثل موجات البحر التي تأتي متتابعة، متشابهة في ظاهرها، مختلفة في شدّتها وعمقها وما تجلبه معها من طرح البحر بما يشي به من قصص لأناس ابتلعهم البحر أو أشياء ثمينة طرحها ليطلعها على تفاصيلها حين تصل إليها على شاطئ القدر.
إذن "الموجة الأولى" ليست مجرد فصل، بل هي مرحلة من السيرة النفسية لها وللآخرين
وفكرة الموجات لها دلالات قوية..
- تكرار الألم وتجدد الذاكرة
- توالي الصدمات والانفعالات
- حركة الحياة بين مدٍّ وجزر، بين اقتراب وابتعاد
من الكوبري الذي يمثل نقطة الثبات والمشاهدة، إلى موجات تمثل التحوّلات والانكسارات المستمرة،
وهو الذي تفسره قطعة الظهر حين تقول: "ضيعَته صويحباته، علاقاته المتعددة وكأني محكوم علي بالإعدام المرة تلو الأخرى(أي موجات) ويحزنني أنه لايشفق علي..." إلى آخر الكلام. المأخوذ من النص ص 127 فهو كالبحر في صورته الغادرة بموجاته المتكررة وكأنها تصر على إغراقها فتعاود المحاولة مرة بعد أخرى، لا تملّ ولا ترحم. كذلك هو كالبحر في قسوته حين لا يشفق على من أحبه فغدرته أمواجه. لذلك تفاجئنا باستمرار بكلمات لا يغيب عنها معنى الموج تقول:"لتكتمل فصول مأساتي بصبر يليه صبر" ص9 فنكتشف معنى جديدا للموج.وهكذا على مدار النص كما سيتضح.
الموجة الأولى
بدأَتها بجملة لخصت الألم، ورصدت الوجع حين يتحول من شعور باطني إلى هيئة معلومة ظاهرة بدلالة تجمع بين الجسدي والنفسي لروح فقدت توازنها تحت وطأة الحزن، ولم تعد قادرة على حمل نفسها أو التقدم بثقة، تقول: "ضاقت علي الدنيا، خرجت أجمع حزني ووجعي وألمي في جوال وضعته فوق ظهري ليحنيه ويثقل خطوتي"
وتقول: "رائحة شواء مشاعري وهي تصرخ من الألم" ص6
وعندما تقول: "وقد فرغ بئر صبري وتحملي"، فرغم توالي الموجات إلا إن الماء غير الماء فشتان بين الماء العذب المستقر في معينه وبين تلك الصدمات التي تتكسر على صخرة صمودها فتفتتها شيئا فشيئا وتنحت منها تمثالا أجوفا، خال من معالم الروح وقد غيبها ظلمه، لكن حتى هذا الماء العذب بات مرًا علقمًا بطعم الصبر.
في البداية، تحكي لنا قصتها وما الذي دفعها للذهاب إلى كوبري ستانلي وما يمثله لها وتعطينا إشارة كيف تقرأ العقول كإرث عن الجدة، لنكون متأهبين لسماع قصص صادقة لم ترو جميعها من قبل اصحابها، بل قرأتها تلك القريحة الملهمة التي تمتلكها، تقول: "يكون معي ويفكر بامرأة أخرى أكاد أراها من خلال عقله"
البحر بالنسبة لها أذن مائية أو شهريار مائي تشكي النساء إليه مسرور حياتهم وقد حمل سيف أوجاعهم كأنه يتحين اللحظة لنحرهم هي سيميائية الأدب النسوي وقد تجلت سماته.
معبرا عن تجارب المرأة الحياتية، ومشاعرها، وقضاياها، وغالبًا ما يُسلّط الضوء على الأدوار الاجتماعية والثقافية التي تؤديها النساء، وكذلك التحديات التي يواجهنها في مجتمعاتهن.
ص15 تجلس بجوار بائع الشاي تطالع السائرون فوق الكوبري من كل الطبقات، دنيا صغيرة تحمل ملامحها. وجوه باسمة، غاضبة، واجمة كأراجيح تلهو فوق نظراتها ثم تلبستها حالة الجدة التي تقرأ ما في العقول لتبدأ به حكاياتها المنسوجة بخيوط الخيال الغني فترسم تفاصيلها على النسيج المتقن.
الموجة الثانية:
بداية الحكايات التي ترافق مرتادي الكوبري وعابريه، فتاة الشارع وهاتفها وتجليات بدت متقنة عن تفاصيل علاقاتها الدنيئة، والثنائي الرائع المسن وامرأته ص23 في صورة ناصعة عن العرفان والامتنان ورد الجميل. (ملحوظة: يقال شيخ كبير أو رجل مُسن بينما عجوز تقال للمرأة المسنة، لكنه من باب الترخص في الاستعمال الشائع. وأم محمد بائعة الذُرة وزوجها العالة لا العائل.
أول مقطع ص 35 "لو أن كل رجل..." إلى "ربيع نبضي" ص36 أعتقد أن هذه الصفحة تلخص الحكاية كلها.
تنقلنا بين لحظة وأخرى إليها، تذكرنا بقصتها من خلال رنين هاتف أو رسالة زوج أو ذكرى ألحت عليها، وقد أثارتها لحظة عابرة لشخوص قذفها البحر في طريقها وأطاح بها فوق الجسر حيث تجلس.. ولا يفوتها أن تذكرها بمدى ما تحمله من كره لحياة تعيشها أو تموتها ٍحبيسة هذا السجان.
الموجة الثالثة:
قصص تتوالى وأحداث تتكرر، الشاب الرياضي ذو الحقيبة، معلم انتهى به الحال إلى بائع فشار غير محترف ليتغلب على وضع اقتصادي من المستحيل تغييره، وقصة الفتاة الوحيدة كيف سولت لها نفسها أن تتقمص دور القدر في حياة أختيها فمارس عليها القدر سطوته، والشاب الطيب ووالده المسن على الكرسي المتحرك وهي تتخيل تفاصيل حكايتهما، وبائع المناديل، الماكر الصغير، هو مكر العاجز المعوز المقهور.
ثم تتوالى الموجات وتغمرنا الموجة الرابعة:
تتذكر هدية إبنتها إليها من مال الزوج؛ وكيف ولماذا رفضتها
وعروسا الفرح الشعبي الذي تزوج العريس من أخت عروسه في أقسي صور الجشع الإنساني عندما يندمج مع خبث الطبع ليوقع ضحايا من أقرب الأقربين دون أدنى مبالاة أو وخز من ضمير؛ يبدو أنه قد أعدم تحت مقصلة المصلحة.
ثم تعود بنا إلى قصتها عبر مكالمةٍ مع أختها، تكشف فيها عن خوفها من أن يعرف الأب مكانها خجلاً منه ومن نفسها. وبينما تنساب الذكريات، تستحضر حكايتها مع تلك الجارة التي لا تكفّ عن الإساءة إلى زوجها وأهله، في مشهد يكشف هشاشة العلاقات وضياع المروءة.
وفجأة يقطع شرودها صرخةُ شابٍ طُعن بسكين الغدر على يد سارقين مغيّبين، فتستيقظ في قلبها ذكرى بعيدة: يوم كان زوجها يحبّها، يخصّها باهتمامه، ويمنحها من سعادته ما خُطِف منها لاحقًا بلا ذنب ارتكبته، وكأنّ كلّ مشهد من حولها يعيدها إلى خسارةٍ قديمة لم تندمل.
ثم تشاهد الشاب وهو يتخلى عن فتاته لضيق ذات اليد بعد أن دُفنت أحلامهما تحت أنقاض البيت المهدوم، قصصٌ نَسجت خيوطها من خيالها مرتين؛ مرّةً حين أبدعت العمل، ومرّةً أخرى حين أسبغت على ذلك الخيال مسحةً من الواقعية، لتمنحه نبضًا يُقنع القارئ أنه حقيقي، فليس من المنطقي أن يبوح كلُّ عابرٍ فوق الكوبري لغريبةٍ بتفاصيل حياته الدقيقة ومآسيه الدفينة؛ لكنها، بقوة الخيال وذكاء السرد، حوّلت هذا المستحيل إلى ممكن، وجعلت من الجسر فضاءً اعترافيًّا يفتح فيه الغرباء صدورهم، فتتولد حكايات تتأرجح بين الواقع والوهم، وتتجلّى كأنها الحقيقة ذاتها.
ثم اتصال ورسالة من الزوج، لا تجيبه، يشدّها مشهدُ الأسرة السعيدة التي تمارس الرياضة معًا، في لوحةٍ تنبض بالطمأنينة المفقودة. ويتتابع أمامها المشهد ليظهر رجلٌ يريد أن يثأر لأحد عمّاله المسنّين من الشاب الذي اعتدى عليه؛ رجلٌ أنهكه المرض ووهن الجسد، لكنه ما زال قويًّا حين يتعلّق الأمر بالحق.
شيخٌ عليل، لكنه لا يتقاعس عن نصرة المبدأ، يتوكأ على ضعفه الجسدي بينما يقف ثابتًا أمام الظلم، لا يطلب في المقابل إلا دعوةً صالحة هو في أمسّ الحاجة إليها.
الموجة الخامسة:
تلوّح لنا بمفرداتٍ موحية، تُبقي القارئ في حالة يقظة لما تعيشه من تقلباتٍ لا تهدأ، فهي أسيرةُ موجاتٍ تتتابع بلا انقطاع.
تقول، في إشارة شفافة إلى هذا الاضطراب الداخلي: "ألقى علينا السلام ورحل، تاركًا في داخلي موجةً من القلق عليه."
لكن ما هي قصتها مع البحر الذي حفرت في ذاكرتها الصغيرة لتخلف وعدا بثأر يريد أن يُنفذ لتهدأ روحها، تقول: فالبحر كالصديق المنافق اذا خاصم فجر
تخبرنا عن الحادثة ص89 في متوالية من 166 صفحة من القطع المتوسط، أي قرب المنتصف.
تقول: نجوت من الموت وأنا طفلة لتقتلني اليابسة ألف مرة بكل مراحل عمري. "
وكأن تلك النجاة الأولى لم تُمنَح لها لتُعاش، بل لتكون الشاهد على موجاتٍ من المآسي المتتابعة؛ جرائم لا تُرتكب دفعةً واحدة، بل تتسلّل إلى حياتها على مهل، تُطاردها في كل مرحلة، حتى غدت شريطًا لا ينقطع، لا يبلغ نهايته إلا لحظة البوح.
تقول: رن هاتفي فارتعبت عندما رأيت رقم أبي ص93 تذكرنا مرة أخرى بحكايتها
ثم تأتي قصة السائر على غير هدى وقد اختلقت له قصة تناسب حاله فتولدت عنه تلك القصة، قصة الخيانة السابقة والخذلان اللاحق.
أما الموجة السادسة:
أقبلت كذكرى لصديقة الجارة تتشابه مع قصة الخائنة لنعلم أنها لم تختلق القصة بل استعادتها من الذاكرة التي أتت مسرعة لتُلحق هذه المرأة بتلك -بمثيلتها في مستنقع الخيانة-,
وهكذا تعيد نفسها إلى حياتها بكل الوسائل فتتشابه الحكايات، حكايتها مع حكاية منال
وتتوالى الحكايات، العاشقان البريئان، العجوز الجالسة، الخالتان المتناقضتان الطيبة والطامعة في اختها المتوفاة.
لننتقل الى الفصل قبل الأخير والموجة السابعة:
رنين الهاتف برقم الزوج وأغنية "أمل حياتي" تنبعث منه تحول الأمل فيها إلى ذروة الإحباط والانكسار، فعلى أعتاب خيانته لها تتكسر الأمواج على شاطئ الحب، ومقطع "عمري مادقت حنان في حياتي زي حنانك" والمقطع: "عمري ما دُقت حنان في حياتي زي حنانك"، الذي يفترض أن يكون ذكرى رومانسية دافئة، ينقلب — من وجهة نظرها — إلى فضولية جارحة وأسئلة تبحث عن ما لا يجب أن يُعرَف؛ أسئلة أورثتها ألمًا بدلًا من الطمأنينة. وقد تكرّر هذا الخيط الدلالي في عدة مواضع من النص، ليكشف عن علاقةٍ لم تعد تسند بل تُربك، ولم تعد تمنح بل تُوجِع.
ثم يأتي رجل الحنطور، كعلامة على تبدّل الأزمنة وتقلب موجاتها؛ موجاتٌ تُغرق البعض، وتدفع ببعضٍ آخر — قادم من القاع — إلى سطح الحياة. وتتابع أمامنا صورٌ بشرية متباينة:
الشباب الثلاثة السعداء الذين خطفهم الحادث،
والمسنّ المصاب بالسرطان، الذي أصبحت حبة الدواء المخدِّرة أمله الوحيد في نسج قشرة رقيقة من السكينة حول مرضه العضال،
ثم ذلك الرجل الطيّب الذي امتدت يده بالعون، فانتشلها من بؤس الحياة إلى بارقة أملٍ عابرة،
كأنها لحظة رحمة وسط بحرٍ لا يكفّ عن الثورة والهيجان.
ص127 نص يمثل قطعة الظهر
الموجة الثامنة:
تختتم الموجات بحكاية المرأة المحترقة وكيف نبتت مرآة بيدها تتحسس وجهها فترى الجلد المتكوم وقد دفنت ملامحها تحته، حتى كفنت وجهها تحت قناع في صورة نقاب.
ظهور بائعة المناديل الصغيرة وكأن الساردة صارت إحدى أفراد أسرة الكوبري الكبيرة رغم أن افرادها يتغيرون لكن تتشابه حكاياتهم.
ثم حادث سيارة أليم يودى بأحلام الثلاثة شباب ويئد سعادتهم ما بين البحر واليابسة، تزامن مع حالة مشابهة حين ألقى بها في سيارته ليودي بآخر لحظات الحرية التي تنفستها فوق الكوبري، وكأن القدر شاء أن يُغلق الدائرة عند نقطة الضوء الأخيرة.
رغم أن الساردة واحدة، وأن الحكايات تنطلق جميعها من منظورها، إلا أنّها تتقمّص شخصيات مرتادي الكوبري وتتحدث بأصواتهم، حتى يختلط على القارئ حدود الصوت الأصلي بالصوت المحكي. فما نلبث أن نسمع القصص بأصوات أصحابها لا بصوتها وحدها، وكأنها قناة للبوح لا ساردة تقف خارجه.
وهكذا تصبح المتوالية بوليفونية بامتياز؛ تتعدّد فيها الأصوات والرؤى والطبقات النفسية، فتتشكل بنية سردية يتجاور فيها الذاتي والجماعي، ويتحوّل الكوبري إلى مسرحٍ تتعالى فوقه أصوات عديدة، لا يطغى أحدها على الآخر. ف
اللغة
لغة العمل مبهرة، آسرة في انسيابها، تجمع بين العمق والسهولة في آنٍ واحد. صورها تنطق بالمعنى بوضوح مدهش، وتختار من المفردات ما يميزها عن كل مرادف آخر وهو ما يمنحها فرادتها. لغة تمارس انزياحًا واعيًا، تُحوّل المحسوس إلى مرئي، والمرئي إلى شفافٍ يخترق الحواس ليصل إلى الأعماق.
بلاغةٌ حدّ الإتقان، لا إفراط فيها ولا تصنّع، بل تألقٌ فطريّ يجعل الجملة نبضًا والمشهد كائنًا حيًا.
تأتي العبارات كلوحات شعورية متدفقة، تدعو المتلقي إلى التوقف مدهوشًا ليصفّق للنص، ثم تعيده إليه شغوفًا ليستكمل رحلته الوجدانية مع صورٍ جديدة تُفَسِّر الإحساس تماما كما تصف الموقف.
لغة تتلبّسك حتى تغدو أنتَ وعاءها، تفيض بما سَكبت هي فيه من وجعٍ وجمالٍ ودهشة. لا ندعي لها المثالية بالطبع فمثلا ص 11 "آلاف الأسئلة تنحر عنق راحتي" كان ممكن بدون كلمة عنق
النهاية
النهاية جاءت مفزعة، مغلقة على مصيرٍ محتوم لا يتيح أي احتمال مفتوح كما قد يتوهّم القارئ. فقد دِيست كرامته أمامها، وانكسر بينهما ما لا يمكن جبره، فلم تعد هناك إمكانية لعودة حياةٍ مشتركة، سواء انصاعت لقول الأب أم تمرّدت عليه، فالأمر لم يعد متعلّقًا بها وحدها، بل أصبح — في جوهره — شأنًا يخصّه هو قبل أي أحد، إذ كيف سيواجه أبناءه وزوجته وأهلها وقد امتهنت كرامته إلى هذا الحد؟
ويظل السؤال معلقًا: هل كان ما فعله الأب انتصارًا لابنته فعلاً، أم لكرامته هو وصورته أمامها؟
تتغيّر التفاصيل، نعم، لكنّ النهايات تبقى كما هي، تُعاد صياغتها بوجوه مختلفة لا بجوهر مختلف.
وقد جاءت النهاية على قدر الجرح، وعلى قدر ما تلقّته من ألم نفسي وجسدي،
لتغلق دائرة حكاية بدأت بالانكساروانتهت بانهيارٍ لم يعد بعده شيء كما كان.
وتبقى "كوبري ستانلي" أكثر من متوالية قصصية؛ إنها مرآة لرحلة الإنسان في مواجهة مصيره، بين ثباتٍ يوهم بالأمان وموجٍ لا يملّ من الارتطام. نصٌّ يلتقط لحظات العبور بين الحياة والموت، الحلم والانكسار، الأمل والخديعة، بلغةٍ تبرق بالألم كما تضيء بالوعي.
تذكّرنا بأننا جميعًا عابرون فوق جسر الحياة، نكتب حكاياتنا بمداد التجربة بخطى مثقلة وظهورٍ منحنية، لكننا نكتبها حتى النهاية. فما الحياة إلا جسر عبور. كوبري يبدو في حالة ثبات لكن قوائمة مغمورة في بحر هادر تنحر أمواجه المتلاحقة أطرافه وأساساته الصدئة حتى تميد به في النهاية بمن عليه حينها يسدل الستار.
التعليقات