لطالما حذّرتُ، في أكثر من مناسبة، من خطورة السير وراء الأصوات المحرِّضة على ترك اللغة العربية الفصحى في الدراما والسينما المصرية، بحجة صعوبتها أو ادعاء عدم ملاءمتها لعصرنا. تلك الأصوات لا تدرك ـ أو لعلها تتعمد ألا تدرك ـ أن الفصحى لم تكن مجرد وسيلة للتواصل، بل كانت بطلة متوَّجة على عرش الإبداع المصري في أزهى عصوره، حيث زيَّنت المسلسلات التاريخية والدينية الكبرى، فأضفت عليها وقاراً وهيبة، وجعلتها قريبة من وجدان الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج.
لقد كان الفن المصري، وخصوصاً الدراما التاريخية والدينية، مدرسة قائمة بذاتها، اعتمدت على فصاحة كبار الممثلين وعمق أدائهم، فارتبطت الفصحى في أذهان الأجيال بالصدق والجلال والمعرفة. واليوم، حين يُدفع الفنانون دفعاً للتخلي عن هذا الإرث، فإننا لا نخسر مجرد لغة، بل نخسر جزءاً من هويتنا، ونقطع صلتنا بالتاريخ والأدب العالمي، ونفرّط في أداة لفهم صحيح
الدين والتذوق العميق لجماليات العربية
الطعن في الفصحى ووصمها بالصعوبة أو الادعاء بأن الأجيال الجديدة لا تفهمها، ليس سوى افتراء مكرور. وما يزيد الاستغراب أن الذين يهاجمون الفصحى في أعمالنا المصرية هم أنفسهم الذين يشيدون بالمسلسلات السورية الناطقة بفصحى مشددة ومقعّرة، ويثنون على رصانتها وجلالها! بل إن أفلام الكارتون المدبلجة إلى العربية الفصحى تُبَث منذ عقود، ويفهمها الأطفال بسهولة ويتعلقون بها. كنا نحن أطفال الأمس نستوعبها بلا مشقة، وها هم أطفال اليوم يتلقونها باليسر نفسه، فما بالنا نزعم أنها صعبة على الكبار؟
ثم إننا نرى ـ ويا للمفارقة ـ أن الجماعات المتطرفة والإرهابيين أنفسهم يتحدثون الفصحى بطلاقة، ويفهم خطابهم الجميع. فهل يُعقَل أن يُختزل دور هذه اللغة العظيمة في أن تكون أداة على ألسنة هؤلاء فقط، بعدما كانت لقرون لغة الأدب والفكر والفن والحضارة؟ أليس هذا تشويهاً مقصوداً، يراد من خلاله أن تنحصر صورة الفصحى في أذهان الناس في إطار مشبوه ضيق؟
إن الرد على هذه الدعوات المغرضة، التي تهدف إلى إقصاء الفصحى، لا يكون بالجدال والاعتراض وحده، بل بالفعل الإيجابي. واجب الفن المصري اليوم أن يعود إلى
مكانته الرائدة، وأن ينهض بإنتاج أعمال جديدة كبرى ـ تاريخية ودينية ومقتبسة من الأدب العالمي ـ تجعل من الفصحى بطلاً حقيقياً كما كانت دوماً. علينا أن نستعيد ثقتنا في لغتنا، وأن نقدِّمها للأجيال المقبلة لا بوصفها عبئاً أو حاجزاً، بل باعتبارها كنزاً حضارياً يربطنا بماضينا ويفتح لنا أبواب المستقبل.
لقد آن الأوان أن يتعلم صناع الفن الدرس، وألا ينقادوا وراء حملات التشويه التي تحاول إقناعنا بأن العربية الفصحى غريبة عن عصرنا. هي ليست غريبة ولا عصيّة، بل هي لغة سلسة رنانة، ما تزال قادرة على أن تُحرِّك القلوب وتُلهم العقول. هي الوعاء الذي حفظ تاريخنا وديننا وأدبنا، ولن نستطيع أن ننهض فنياً أو ثقافياً ما لم نتمسك بها.
الفصحى ليست خياراً ثانوياً يمكن التنازل عنه، وإنما هي جوهر الهوية العربية، ورمز فننا الأصيل. فإذا كنا نريد لفننا أن يظل حيّاً نابضاً مؤثراً، فلا سبيل أمامنا إلا أن نعيد لها مكانتها التي تستحقها، وأن نرفعها من جديد إلى حيث كانت دائماً: بطلةً متألقةً على خشبة الفن المصري.
التعليقات