مَر عام على مُر العام الذي سافرت فيه إلى السماء بلا عودة، هدأت أنفاسك اللاهثة خلف الأحلام إلى الأبد، اطمأنت روحك من بعد شقاء، وأرتاح جسدك من طول المرض، لم يعد صوت فيروز يدندن من حولك وأنت تكتب، جَفّت أحبار قلمك وأصفرت الأوراق وتلاشت التفاصيل المصاحبة لصباحك ومسائك وصار السكون هو سيد الموقف وما أقساه حين لا تملك إلا أن تتقبل الوضع الراهن بكل ملابساته المكثفة من الحنين.
مازلت أرفض غيابك وأتجنب سماع كلمة المرحوم وتحاصرنى مشاهد الأيام الأخيرة وأنت تمسك يدى بشدة لم أعهدها من قبل حتى لا تغادر، وهذا لأنك لم تكن جزءًا من الحياة، بل كانت الحياة جزءًا منك، وليس غريبًا أن الحياة ذاتها التي أعطت لك البريق اللامع والوهج الساطع، انطفأ نورها وذهبت بهجتها، لكن سؤالك التأملى باقٍ وحضورك دائم على كل مواقع التواصل العصرى.
أنت وأمى صنعتما تاريخًا لا يمحوه الغياب ولا يقوى عليه الرحيل ولن أنافسك في أدب الافتقاد، فأنت مبتكره وصاحب براءة اختراعه الأولى، أنا هنا فقط أتحرر من آلام الذكريات وأطلق العنان لدموعى المحبوسة على ذمة الماضى فليسامحنى القراء عما سببته لهم من شجون هُم في غنى عنها، ويكفى ما يسمعونه ويشاهدونه من صراعات وحروب وأزمات يومية.
لكن الكاتب في النهاية إنسان له ضعفاته وأحزانه الشخصية التي قد تشاركها مع القراء حين تأتى مناسبة خاصة يتجرد فيها من قناعه الواقى ضد الصدمات وينساب بمشاعره ويسرد ما بداخله فوق الورق حتى يلتئم من جديد ويستمر ويتواصل واليوم وبعد مرور عام على مُر العام الذي غاب فيه أبى وصديقى وقدوتى المحاور مفيد فوزى سوف أحتفل به على طريقته التي يحبها وهى سرد بعض من أقواله المأثورة في كتابه «كلام مفيد» لتظل حية حاضرة في الأذهان كمثل حضوره الأبدى.
«أعتذر ولا أملك سوى في زمن داسوا فيه على التسامح وهتكوا فيه عذرية لمحبة وأعلنوا وفاة الفروسية، أعتذر عن الوجوه السبعة والضمائر المستعارة والشجاعة التي أصبحت تهور والأمانة التي صارت غفلة والوداعة التي سموها جُبنًا، أعتذر عن النهش في الكلمات واستنباط معانٍ أخرى لا علاقة لها بمضمون الحروف، أعتذر عن النفوس الملوثة والأفعال الفاسدة والأخبار الكاذبة والقنوات المشبوهة والحناجر المزيفة.
أعتذر عن أسماك القرش التي ظهرت في البحر والبر وأصبحت أكثر افتراسًا وفتكًا، أعتذر عن الذين يعانون من قصور في الفهم والرؤية وأنميا في الخيال والأحلام تتنفس حقدًا، أعتذر عن هجرة عقول مصرية إلى الداخل وعقول في المنفى كارهة تتنفس حقًا، أعتذر عن ينابيع الصدق التي جفت وزادت ملوحتها وسارت القوارب نحو مرافئ الخيبة حاملة على ظهرها محدثى النعمة والثروة وصوتها عالٍ أعلى من دحرجة براميل فارغة.
أعتذر عن القبح العام والكآبة الثقيلة على الصدور من جراء التغيرات غير المنطقية والتقلبات غير المفهومة، أعتذر عن الرغبة في الصدام المتحضر لفك طلاسم مجتمع فقد البوصلة وأكتفى بالصمت الذي تحول إلى غل مكتوم، وأعتذر عن نبرة الحزن التي تكحل سطورى وأعتذر حقًا عن بعض راياتى المنكسة وأعتذر عن الحروف المغموسة في ألم عام اختلط بالألم الخاص وذابا، لكنى سأظل أتشبث بالأمل.
التعليقات