خمسون وسبعمائة ورقة تشتمل على قسم كبير من تراث شوقي الأدبي المتمثل في قصائده الغنائية، وشعره المسرحي، ومزدوجته (دول العرب وعظماء الإسلام) وبعض رواياته وقصصه ومقالاته النثرية، وبعض نصوص أدواره ومواويله التي كتبها بالعامية المصرية، وقف عندها الناقد الدكتور محمد مصطفى أبو شوارب يتأملها ويتفحصها ويقرأها ويدرسها ويستخرج لنا منها ما أسماه "شعرية الاختيار" في عدد من نصوص شعر شوقي الغنائي على أساس أسلوبي.
إن محاولة أبي شوارب تهدف إلى اكتشاف الأسس الفنية والسياقية التي قامت عليها اختيارات شوقي الموضوعية والتشكيلية، من خلال تناول أشهر نماذج المسودات الأدبية الموجودة بأيدينا، وهي مسودات أحمد شوقي المحفوظة بمتحفه (كرمة ابن هانئ) من خلال الاختيار الأسلوبي.
ويرى أبوشوارب أنه هذه النصوص من شأنها أن تضع أيدينا على أسس الشعرية التي بنى عليها شوقي اختياراته اللغوية في مستوى المفردة والتركيب من خلال دراسة عناصر التغيير بين المسودات والنص النهائي، وطبيعة هذا التغيير وغايته الفنية. وهو ما يُسهم في تصور بعض ملامح الشعرية عند شوقي، وبعض ركائزها من خلال تحديد اختياراته النصية، وهو ما يختلف عن الغاية الانتقادية التي سعى إليها العقاد (في كتابه شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي) والمحاولة التي غلب عليها الطابع الوصفي على التحليل عند شوقي ضيف (في كتابه شوقي شاعر العصر الحديث).
إن دراسة أبي شوارب مسودات قصائد شوقي تكشف عن وجود وفرة في التعديلات الاستبدالية التي تمثل انتقاءات مرجحة لدى الشاعر، سواء أكان ذلك في مرحلة التسويد أو في مرحلة الطباعة، وهي تتوزع بين لونين أساسين: الاختيارات اللفظية؛ وهي تتعلق بالكلمة المفردة والضمائر والمركبات الجزئية، والجمل والمركبات الكلية، والاختيارات البنائية التي تتعلق بملامح البناء النصي للقصيدة، ومراحل الكتابة ذاتها، ومن أبرزها: تعديلات تتعلق بإعادة توظيف القوافي، وتعديلات تتعلق بالكتابة ذاتها، وتعديلات تتعلق بإعادة توظيف بعض الوحدات النصية، وتعديلات تتعلق بتوسيع حيز البيت وتخفيف كثافته الدلالية، وتعديلات تتعلق بالأبيات التي سجلها شوقي على جوانب مسوداته مضافة إلى النص، وتعديلات تتعلق بحذف واستبعاد بعض الأبيات من النص رغبة في تكثيف المشهد الشعري والتركيز على جوهره محافظًا على حيوية الحركة الشعرية داخل القصيدة.
ويرى محمد مصطفى أبوشوارب أن اختيارات شوقي لا تقتصر على الدوال فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تشكيل الصورة حين يتخذ الشاعر قرارًا فنيًّا، على مستوى الشعور أو اللاشعور، بتغيير موقفه إزاء واقع محدد، ومن ثم تتعدل فكرته بما يؤدي إلى حتمية تعديل الصياغة، وليس في شك أن الصياغة هي التي تمنح الفكرة دلالتها، وأن اللغة هي التي تفصح عن موقف الأديب من موضوعه، لأن دور الأديب لا يتعلق بإعادة إنتاج الواقع قدر ما يتعلق بتقديم قراءة خاصة حول هذا الواقع، تستند إلى رؤيته وانطباعاته الشخصية إزاءه.
وربما كان من أظهر نماذج الاختيار بين التراكيب في "الشوقيات" ومسوداتها ما نجده في تصوير فرحة شعوب الشرق بانتصار الترك على اليونان في بائية شوقي المشهورة "انتصار الأتراك في الحرب والسياسة".
إن إمعان النظر في شعر شوقي يكشف بوضوح لا لبس فيه عن شاعر يرى أن اللغة، حس مفهومه وتصوره لها، هي أهم عناصر الكتابة الشعرية، وهو في الوقت ذاته تصدر في جماع تجربته عن أيديولوجية الجماعة التي ينتمي إليها، وتعكس هذه التجربة ذائقتها الفنية، وهو ما يبدو بصورة سافرة في تعبيره عن أحداث عصره وشخصية جيله عبر لغته.
ويمكن لدارس مراوحات الخلق والتكوين في نصوص شعر شوقي اعتمادًا على مسوداته الخطية، أن يحصر الغايات الرئيسية التي تسعى إليها الكتابة الشعرية من خلال الاتكاء على عملية الاختيار الأسلوبي، في خمسة ألوان أساسية، يتصل أولها بالمقام وما يفرضه من محددات تتحكم في اختيار العناصر اللغوية بما لها من دلالة على المواقف الفكرية والسياسية والدينية التي يؤمن بها الأديب أو يحاول مراعاة الالتزام بها.
أما في حال تعلق الخطاب الشعري بموقف سياسي فإن شوقيًّا يحرص في اختياراته على إدراك التوازن الذي يحقق لونًا من الملاءمة بين أطراف الحراك السياسي. ولقد كان شوقي أميل إلى الاستجابة إلى دواعي الملاءمات التي تفرضها الغايات المقامية التي ألح على إدراكها في اختياراته الأسلوبية، حتى في قصائده الذاتية أو الوجدانية.
أما الغاية الثانية من غايات الاختيار عند شوقي فيوضح الناقد أنها تتعلق بالمعنى وعلاقته بانتقاء عناصر الحدث اللغوي التي تعمل على تشكيل المعنى ذاته وإنجاز دلالته. وتتركز عناية شوقي بالمعنى على نحو واضح في انشغاله بالدقة التعبيرية وحرصه على ضبط درجته وتحديد مدى حركته بحيث يصل من خلال المفاضلة بين البدائل المتاحة إلى الدلالة المرادة التي تصيب مقدار المعنى كمًّا وكيفًا.
وتنصرف الغاية الثالثة من غايات الاختيار فيما بين أيدينا من نصوص قصائد شوقي ومسوداته إلى السياق النصي للقصيدة، وما يفرضه من نسق منطقي ينتظم الدوال ومدلولاتها في علاقة تصب حتمًا في نهاية المطاف - خاصة مع تجربة فنية من نوع تجربة شوقي - في مصلحة تحقيق أكبر قدر من الانتظام الداخلي للنص، الذي يسعى إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من التواصل مع المتلقي والتأثير فيه، وهو ما يدفع الشاعر إلى أن تُراعي اختياراته وحدة الموضوع وتماسكه الدلالي.
أما الغاية الرابعة من غايات الاختيار في شعر شوقي فتنصرف إلى الإيقاع الذي تمثل نزعة شوقي فيه مقصدًا أساسيًّا، يبرز في تجربته بوضوح دفع محمد زكي العشماوي إلى عدّ إيقاع شوقي بما هو خصائص صوتية غير الوزن، في مقدمة دلائل قدرته الشعرية، إذ كان حريصًا على التماس أسباب التكثيف الإيقاعي لأدائه الشعري في كثير من الأحيان.
ويختم أبوشوارب بحثه بإن قارئ مسودات شعر شوقي الغنائي، لا يعدم وفرة من النماذج التي تكشف عن اختيار شوقي صياغات أقل كثافة إيقاعيًّا؛ لاكتنازها الدلالي وغناها على مستوى التصوير.
التعليقات