عندما نتحدث عن المخرج الكبير يوسف شاهين، والعملاق عباس محمود العقاد لا نجد جدال واسع حول أحقية كل منهما فيما وصلا إليه من نجاح وحب وتقدير واسم حي بعد فناء الجسد، ولكن هل هذا يرفع عنهما الذنب؟!
بدأ يوسف شاهين حياته المهنية مبكرا، أدار معارك فنية تستحق بكل مصداقية هذا المسمى، خلق فأبدع تيارا خاصا في الإخراج ينم عن اختلاف رؤيته لأبسط الأمور أو غرابتها، عبقرية فذة في تصوير الواقع وإظهار أجمل ما في الممثل أمام الكاميرا، فوقع في حبه جميع من عملوا معه، وكذلك النقاد الذين شاهدوا وقيموا أعماله بعناية، وجدوا فيها الإبداع الكامن في أدق وأصغر التفاصيل، لمسوا مهارات الإخراج في أعماله، فلو تحدثت أفلام يوسف شاهين لقالت: "أخرجني إليكم فنان عظيم.".
ولكن إذا انتقلنا إلى عامة الناس، الجماهير التي بيدها النهوض بفيلم أو مخرج أو ممثل إلى السماء أو الهبوط بهم جميعا إلى سابع أرض، نجد التعليق السائد بينهم وبين الجمهور المصري حيث نشأ خاصة، والذي يُقال عنهم في الفنون وخاصة الفن السابع "شعب الأمي فيه عالم"، هو أنهم لم يفهموا مغزى الفيلم وكذلك معظم تفاصيله.
وهنا تكمن الإشكالية، في أي طرف تكمن المشكلة؟!، المخرج أم الجمهور أم النقاد، ولكن إذا كان الفن قد وُجد للجمهور، فهل يمكن أن يكون الخطأ من عندهم لأنهم لم يتقبلوه؟! إذا نستبعد الجمهور، يبقى المخرج والنقاد، على أي أساس تحدث النقاد عن عظمة أعمال يوسف شاهين مهملين آراء الجماهير؟! هل لأنها أعمال أرضت غرورهم، وعلمهم ودراستهم التي يعلموها ويجهلها الناس؟! الحقيقة أن يوسف شاهين عقلية فذة وكان من الممكن أن يستغل قدراته في صنع مجد أكبر بكثير مما صنع، ولكنه فضل النقاد على الجمهور، نسي أن الفن ليس لدارسيه أو صناعه، فعندما تنافس غروره مع فنه وموهبته على صدارة قائمة أولوياته، اختار الطريق الأصعب لتوصيل فنه ليظهر مدى إمكانياته فعجب النقاد وخسر الجماهير.
وإذا انتقلنا إلى الكاتب الكبير عباس محمود العقاد لا نجد اختلاف كبير حول تفسير سبب اختياره للطريق الأصعب دائما في توصيل فكره، فلم تمر عقلية بذكاء وفطانة العقاد في الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع، والأدب نثرا وشعرا ونقدا وغيرهم، ولكن لا أتحدث عن القراء فقط، بل دارسي ومتخصصي اللغة العربية يجدون صعوبة في فهم مقاصده بسبب اختياره لأكثر التعبيرات والأساليب تعقيدا في توصيل أعقل الفكر وأكثرها رزانة، ولكن ما الفائدة إن لم تصل لأكبر قدر من الجمهور؟!
"ليس الأديب رجلا يكتب أو يتكلم لا لشيء إلا ليصفق له الناس، إنما الأديب هو الذي يكتب ليفهمه الناس، وبقدر ما يستطيع، يحاول الإصلاح ما وجد لهذا الإصلاح سبيلا." عميد الأدب العربي طه حسين.
لم يتخط العقاد قط فكرة أنه لم يكمل تعليمه بعد الابتدائية، اعتمد على ذكائه وقدراته الخاصة في التثقيف الذاتي؛ إلى أن أصبح العقاد الأديب والمفكر والمجادل أمام أحمد شوقي تارة وأمام طه حسين تارة أخرى، ولكن ظلت بداخله طوال حياته وظهرت في كتاباته ولو لم يدركها، رغبة دفينة في إظهار ثقافته ومهاراته اللغوية، وكأنه يريد أن يثبت للعالم أنه تغلب على قدره.
وإذا جئنا بيوسف شاهين والعقاد فلن نجدهما نادمين أبدا، لأنهما ببساطة حققا ما أرادا، فالأول أراد التميز والاختلاف وإعجاب النقاد ونيل الجوائز وهذا حقه، والثاني اختار إرضاء رغباته وتضميد جروحه وأيضا لا يُلام على ذلك.
فلا حق لأحد في التنظير على مثل هذه القامات، ولكنها رؤى واجتهادات، فلو لم يكونوا على قدر من الأهمية لما التفت أحد للبحث في ذواتهم، ولكل إنسان حياته الخاصة صاحبة السيادة على تفكيره وتصرفاته ما دام حيا، وتظل التجربة أصعب بكثير على صاحبها عن روايتها.
التعليقات