هل تخيلنا أن نصحو يوما ونسمع أنين البحر شاكيا باكيا يستجدي عطاء من حوله؟!ّ لقد اعتدنا وجود بحر واسع جميل يفيض علينا بخيراته ويمتعنا بالجلوس أمامه متأملين روعة تلاطم أمواجه تارة وهدوء صفحته تارة أخرى. نفترش الرمال فتداعبنا نسمات هوائه المنعشة وتسحر أعيننا درجات زرقته وانعكاس لون السماء علي مياهه. نجوع فليس هناك أكرم منه في عطائه فخيراته لا تعد ولا تحصى.
جلست يوما على شاطئه أراقب طيور النورس جوا وسرطانات البحر النشيطة تتراقص يمنة ويسرة. هدير الأمواج منتظم والموج يداعب أطراف الشاطيء فيرسم زبده لوحات متعددة. لاحظت أن الأجواء تحمل إحساسا غريبا. ظاهريا يبدو المشهد كما عهدته منذ وعيت على هذه الدنيا: بحر وشمس وأمواج وطيور لكن حدسي يخبرني أن هناك خطب ما. أصخت السمع فسمعت أنينا بين هدير الأمواج ولم تخف على التماعة دمعة انحدرت فذابت بين المياه المتسعة.
- ما بكَ أيها البحر؟ أتبكي؟ هل أرى دموعا أم قد شبّه لي؟
- تعبت من وحدتي. أعلم أنكم جميعا تجلسون على شواطئي وكلكم متعة وفرح ومنكم من يسبح فتلاطفه أمواجي ومنكم من يبحر بأشرعته بين صفحاتي. أغدق على الصيادين بخيراتي ولا أكل ولا أمل لكنني تعبت. فاض بي! أريد أن أرتاح. أريد أن أجلس مكانكم أستمتع بخلق الله في سكون منتظرا ما تجود به على الدنيا.
تعجبت من كلامه وهززت رأسي علني أسترد الواقع لأدرك أن ما أسمعه حقيقي لا محض خيال ولا حكاية من حكايات البحارة وأساطيرهم. إنه البحر حقا يحدثني وتغيض نفسه بمنكون صدره الذي يطوي جنبات الأرض. فتابع:
- أعمل ليل نهار بلا كلل ولا ملل. أسكن صيفا فتفرحون وعندما تعصف أمواجي شتاء تتعطل سفنكم وتضطرب أحوالكم. هل فكر أحد منكم يوما في يومي كيف أقضيه ووحدتي كيف أهونها على نفسي؟ أفكر في كائناتي البحرية وأفكر في البشر من حولي لكن لا أحد يفكر في. كل يوم أعاني من أطنان من المخلفات ترمى في مياهي فتعكر صفو أسماكي وتلوث أمواجي وتعرض كائناتي للخطر. تتخلص السفن والمراكب من زيوتها فتكبها في مياهي بلا اكتراث وتتبعها بنفايات بلاستيكية لا تتحلل بل تبقى شوكة عالقة في حلقي وحلق سلاحفي المسكينة. هل أذيتكم يوما ليكون هذا جزائي؟ لماذا لا تفكرون في كما أفكر فيكم؟ من سيساعدني على التخلص من أطنان النفايات اليومية؟ ألا يكفيكم عملي الدؤوب لتزيدوا عليه آخر شاقا ومربكا؟!
لفظت الأمواج كيسا أسود لحق بعلبة عصير فارغة كالحة اللون طمست المياه معالمها وأذهب ملح البحر رونقها فخجلت من مواجهته فتابع شكواه:
- إلى متى سأتحمل بلا شكوى؟ مهمتي ليست في تحمل الأذى بل في الجود بالخيرات. تقولون أن للصبر حدود وللبحر أيضا. (عطاء بلا حساب) أهذا ما تريدونه يا معشر البشر؟ أنانية في الأخذ بلا عطاء. تأخذون مني كل شيء يمنحكم السعادة والغذاء والانتقال بين البلاد والتجارة والمكاسب بكل أشكالها وتضنون علي بالاهتمام. لا يعنيكم حتى مجرد حمايتي من نفاياتكم ومهملاتكم. تظنون أنني لا أشعر ولا أكترث وأنني سأتخلص منها بلفظها خارجا أو بدفنها في أعماقي. حسنا! لقد فاض بي. طفحت أعماقي بما دفنته سنوات وسنوات. لن أقبل مزيدا من النفايات ولن ارضى إلا بمعاملة بالمثل. ألأنني بحر فمطلوب مني العطاء بلا مقابل؟! أكره الأنانية ولم أفهمها يوما. عاملوني كما أعاملكم وأحسنوا لي كما أحسن إليكم. فكروا في راحتي كما أفكر في راحتكم. لا تغرنكم المياه التي تغمرني فقلبي شقه الجفاف ويحتاج لفيض رعايتكم واهتمامكم!
ألجمتني كلماته ورأيت على صفحته انعكاسات لوجوه كثيرة من البشر. هو محق! كم من الناس حولنا نعاملهم كأمر مسلم به في حياتنا وجودهم حتمي وعطاؤهم لا يخضع لسؤال؟! نطلب منهم بلا حساب ويرضخون بكل حب واستكانة لكن هل فكرنا يوما فيما يحتاجونه هم منا؟! نتخلص من همومنا ومشاكلنا ونفايات حياتنا على أعتابهم ونترك لهم مهمة البحث عن حل ولم نفكر يوما أنهم ما عادوا قادرين على العطاء. لابد من وقفة نتأمل فيها أحوال من هم مثل البحر وقد اعتدنا على وجودهم مصدر راحة وخير. لقد أيقظ البحر غفوة طالت عن هؤلاء الذين يتحرجون عن البوح والشكوى؛ هؤلاء الذين وجدوا ليقدموا عطاء بلا حدود. ظلمناهم بمعاملتهم كأنهم آلات لا تشعر واستنزفنا صبرهم فهلا نلتفت إليهم قبل أن يفيض بهم الكيل كما فاض بالبحر!
التعليقات