نلتقي بأرواح لم نعرفها قط ولم نميز من قبل ملامحها، ونعشق كلمات دون النظر إلى من كتبها أو ما استدعاه لأن يخطها وما يخفيه بباطنها، ونبكي مع عيون لم نبصرها، نتشارك معها الأحداث ونرسل لها النوايا الجميلة، عسى أن تخفف مشاعرنا من معاناتها وتؤنس وحدتها، ليبقى حب الروح أسمى ما عرفناه، فليس المودة والحب بقرب الأجساد لكنها بتشابه القلوب وانسجام أرواحها.
لكن هناك من يتوجس التعامل مع الأشخاص الذين لا يعرفهم، يخشى التواصل معهم لاعتقاده بأنهم قد يملكون فكرا سيئا أو نوايا خبيثة، لظنه بأنهم لا يمكنهم فهمه بالطريقة التي يتوقعها منهم فيكون خياره الأول هو الابتعاد عن كل الوجوه الجديدة خشية الإخفاق، فيستحسن البقاء وحيداً على أن يخوض تجربة معرفة أرواح جديدة، فلا تكون لديه رغبة لفهم الآخرين والنتيجة أدنى أن تضر عوض أن تفيد. ليبقى بوضعه الراكد خشية صخب الحركة التي تنازعه أو مواجهة الفكر الذي قد يتحداه، ذلك لأنه لا يستطيع الرد على الحركة بحركة أقوى، وأن يقابل عنفا بعنف أشد. وبما أن التعاملات الإنسانية تفرض عليه ما لا يستطيع من مقابلة فكر بفكر أرقى وأقوى، وهو ما هو منه فقير، فيرضخ ليتعامل مع الوجود بفكر متهيب من المجهول، يحيط ذاته بالكثير من الظنون والمخاوف التي مع مرور السنوات تحرمه بطواعية من التمرس والإتقان لفن التعاملات البشرية، فلا يملك الفراسة للتعرف على معادن البشر المستوحشة - كما يتخيل – لينتهي به المطاف بين فكّي أحدهم.
إلى أن يبلغ مرحلة يصعب عليه فيها استيعاب أن الرائعين حوله أكثر مما يتخيل فقط عليه إعطاؤهم فرصة، ليثبتوا له العكس ولكنه للأسف يتمادى في مخاوفه حتى يقع فريسة لها، فترميه الدنيا بأحضان كل أشباه ظنونه ليثبت صدقها فتتزايد شكوكه ويطول انعزاله حتى لا يواجه العار المتراكم في باطن الفكر المتخوف من الناس لتفقده العزلة إنسانيته ويتوه في واقعه المشوش.
وعلى النقيض هناك من يتشدق بين الأرواح كجيفة سارحة لا تستشعر طعنات العار ووخز الخيبات المتكرر، فلا يستهويها الفهم ولا يعنيها التفكر بمحيطها، تتخبط بين هذا وذاك دون أن تتعلم الدروس وتتقن فنون التعاملات مع الأرواح البشرية التي تعرضت للإيذاء وما نتج عنه من تفاعلات مركبة يصعب تجاوزها أو بسيطة يسهل تخطيها.
وبين ذاك وهذا، أناشدك بالاعتدال والوسطية فهي الملاذ الآمن، فإن كان فكرنا سليماً جاء نظرنا وأداؤنا سليماً وفق نسقه، وإن كان فكرنا معتلا جاء نظرنا وأداؤنا معتلا على شاكلته، من هنا تنبثق أهمية اجتناب مشوهات التفكير العضوية والنفسية التي تراكمت من تجاربنا ومخاوف المحيطين بنا، فبدونا متوجسين من كل ما يحيط بنا، وكأن العالم تمحور فينا، فما فعل ذاك هكذا إلا ليُغيظنا وما تفوهت فُلانة بتلك الكلمات إلا لتشوهنا، أما هذه فنظراتها لي مسمومة وذاك يتصيد للإيقاع بي، وهكذا دواليك تسير عجلة الحياة وهي تحتضن بين أتراسها مشاعر الريبة والخوف لتتوالد وتتكاثر بعفن الحقد والكراهية، فتخيط العناكب بيوتها معلنة الدمار الكامل لكل من يقترب من توجسها المستمر.
لذا، أعد ضبط إعداداتك الفكرية وافتح أبواب عقلك وعينيك للحياة لتتعرف على أفرادها المتمرسين والهواة، ستصادف الصالح والطالح، وستتجادل مع الذكي والمتذاكي، كما لا يمكنك أن تفوت جمال تجربة التعامل مع الغبي والمُتغابي، أو يغيب عن تجربتك الحياتية رؤية الماكر والطيب، ففي كل واحد منهم متعة وفائدة مختزنة نستنبطها لفهم خفايا الوجود والأرواح البشرية، فلن يقضموا منك قطعة ويقتسموك كقالب حلوى إن لم تسمح لهم بذلك، مهما كان طعمك حلواً فهناك أنفس لا تشتهي المذاق المُحلى ولا تنغمس فيه ليقينها بأضراره المتتابعة وخطورة مجاراته.
فالفكر هو ما نشعر به بوجودنا، ونهتدي به إلى وجود ما حولنا، قريبه وبعيده، ظاهره وباطنه، علينا أن نتوازن به لتتزن أوقاتنا وتصلح أحوالنا، بأن نتبنى الأفكار المرنة لخلق بيئة صالحة قوامها كلمة طيبة تريح القلوب وتسعد الوجوه، فليس منا من لم يتأذى، جميعنا نعاني ولكن الحياة لم تقف ولم نوصد الأبواب في وجه بعضنا البعض، بل على العكس من ذلك، كُلما تفهمنا الآخرين بادلونا الفهم وكلما تقبلناهم بكل ما نراه فيهم من قصور قابلوا نواقصنا بالرضا والقبول.
التعليقات