على هامش الحياة نتخبط لدخولها، عسى أن نفترس أحدهم أو يبقى لنا أثر من بقايا الروح، صفحات بيضاء لطختها أيادي البشر بعد أن تزينت بألوان الطيف المبهجة، لنغدو رقماً بين مليارات الأنفس التي تستنشق أكسجين الحياة وتزفر رماده بوجه أعدائها، تقتات على رفاتهم لترتفع درجات قد تظن لوهلة أنها تُقربك من المراكز العليا وترتقي بك لتتربع على عرش الاستحقاق، لكنها في الواقع ذاته قد تبعدك عنه درجات صُنفت أرقامٌ عُليا أكبر لا تخلو من الأفضلية.
كثيرًا ما مثّلت الأرقام «طاقة» تُحركنا وتتحرك بها الأحداث والأشياء من حولنا، فلا عجب أن نجد لها وقعًا وتأثيرًا في مختلف الثقافات الإنسانيّة باختلاف أزمانها، ومستويات تقدمها أو تأخرها، فالأرقام تُحيط بأجسادنا وتنظم كوكبنا، تشاءمت ثقافات محدودة من بعضها وتفاءلت أخرى بالبعض الأخر، إلا أن علاقتنا بها باتت تنتقل لمستويات غير مسبوقة من الاندماج شبه الكامل، فكل شيء أصبح قابلاً لرقمنته.
إنه زمن تصدير الأرقام وتوصيفها بقيم افتراضية، كيف تكون رقماً صعباً، كُن رقماً مميزاً، عليك أن تحتل رقماً بارزاً، لا تقف على الهامش، وكأن الهامش نكرة يُعبرون عنه بللا شيء (الصفر)، يدخلونه على الأرقام ليحدث تغييرا وفارقا كبيرا بالقيمة والكمية والمضمون، حسب موقعه بينها، ورغم ذلك فهو الفراغ الذي عبر عنه الخوارزمي بنظرياته.
فما الفرق بين الواحد والمائة؟ لعلنا بمعرفه الإجابة نستخلص أيهما أفضل، وهل التدرج التفضيلي من الأقل فالأكثر أم هو من الأكبر فالأصغر؟ ومن ذاك الذي يملك مقاييس الأفضلية التي تتناسب مع الجميع، بعيدا عن الروح الإلهية ودرجات الفضل عند الله (سبحانه) وتعالى قدرة عن هذه المتناقضات الدنيوية.
أذكر جيداً في أولى سنواتي العملية، واجهني مسؤول لا تعنيه المسؤولية بمقولة: عدم ضرورة أن يكون ناتج عملية الجمع للرقم واحد ونظيره هو العدد اثنين، فلم استوعب حساباته الواهية، لذا جادلت منطقه الهش الذي أربكني واضطرتني مقاييسه المتضاربة لترك العمل، كيلا انساق لهذه التناقضات، ومن يومها ما عادت تستهويني الأرقام وسباقاتها الواهية، بل باتت تُثيرني وتزعجني عندما تُطلق لتقييم موقف أو فرد، وكأنها عملية حسابية غير كونية يتناقض البشر في احتسابها، كلٌ حسب رغباته وحاجاته الدنيوية يتلاعب بها ويصنفها من الأساسيات الحتمية التطبيق، لترتكز عليها حياة الآخرين من حوله، مما ادخلني في تساؤلات فردية ومعارك فكرية تشوبها الحيرة والارتياب لهذا المبدأ المخالف للمنظومة الحسابية والنظريات المتعارف عليها.
أعترف أنها استلزمت مني سنوات من الخبرات والتجارب والحروب الواهية، لاستكشف حقيقة مقصدهم وتلاعبهم بالحسابات لإنشاء قواعد نظرية جديدة مفادها: لا تتشبث بالأسس والثوابت، وأطلق مرونتك الذهنية لتتناغم مع متطلبات الحياة الظرفية.
درس قاس نخوضه في معترك التناقضات (تكمن الفوائد بنتائجه)، فكثيراً ما تثبت لنا الدنيا ضرورة مسايرته، كيلا تدور عجلاتها العكسية محطمة آمالنا، فتجتز حصادنا بشكل مباغت لا تتقبله طموحاتنا الهائجة.
لكن على الدوام عند نهاية المطاف تتضح الصورة الكبرى، لتؤكد حجم خساراتنا التي لا يمكن تعويضها، مثبتة بما لا يدع مجالا للشك أن الحلول الخاطئة ستترتب عليها نتائج كارثية تسوقنا لنهايات حتمية، كان بالإمكان تدارك بداياتها.
لذا، تشبثت بدقتي وقراراتي وإن رآها البعض خطأ فادحا، فلا ترضيني الحلول الرمادية، حفظت الدرس وتدرب عقلي على رسم خطوطه الحمراء وأيقنت بأنه أنا فقط من يملك حق الدفاع عنها ويجبر الآخرين على احترامها، لن تتغير حساباتي ولن أكون طرفاً في عمليات رقمية لا تعنيني، لأنني ببساطة لا تستهويني الأرقام وسباقاتها ولا ابحث عن رقم يحدد موقعي بقدر طموحي للتفرد، فلا يعنيني ما هو الرقم الذي سينصبني عقلك فيه، ولا مقدار تقييمك لقيمتي المضافة، فتواجدي بهذه الحياة ليس لمنازعتك على رقم أو مكانه، بل جل اهتمامي، عدم الاهتمام، وقمة رغباتي، إلا رغبة.
خلاصة القول: قيمة الإنسان الذاتية لا يستمدها من الآخرين - فأغلب الطغاة نصبوا لهم التماثيل، في حين يُرمي الشجر المُثمر بالحجارة - تقديرك لقيمتك هو رأيك الشخصي بنفسك، لذا احرص على أن تبقيه هكذا، فلا ينبغي أن يعتمد أو يبنى على تفاعلات وآراء الآخرين، فما دمت مقتنعاً بما يناسبك فأنت تملك حق انتقائه ورفض ما لا يتوافق مع توجهاتك وحاجاتك.... قيمتك ليست رقما يحدده الآخرون.
التعليقات