طقس أشبه بصقيع سيبيريا تحت ضوء سحابة رمادية تحمل بين طياتها أمطارًا رغم قسوتها تدغدغ الوجنات بحنو، وأنت!!.. هل سنظل كثيرًا نرنوبعضنا بصمت؟!.. أرى السماء ملبدة اليوم بالغيوم، ويا حبذا لو تأتي عاصفة هوائية تحمل بردًا يُحْدِث قشعريرة فأختبأ فيكَ حتى الصباح...
لا أعلم ما الذى ينتظرني وما هو آت؟!. برودة وصقيع كنتُ أتلذذُ حثيثهما الأمس لكني الآن أخشاهما، فقدت رغبة السير فى أيكة بليلة شتوية حالمة، أحسستُ برهبة فما بين دقائق وأخرى تتصارع أصوات الرعد فى زرقة السماء مصحوبة بنوبات أضواء البرق المخيفة بينما أنتظر قدومه وأرقب فى توتر خلف النوافذِ والأبواب، كيف سأقص له ما حدث؟ ماذا سيفعل حين أخبره أني وجدت ثانية ذاك "الدفتر" اللعين بين بقايا ألعاب صغيرنا؟ كان صغيرى ذوالعامين يلعب بدميته وبندقيته البلاستيكية ذات الألوان الزاهية وهناك على مرمى قريب ظهر نفس الدفتر الذى تخلصت منه بيدى ووضعته بصندوق القمامة ونحن نرتب للذهاب لبيتنا الجديد أمام بوابة المنزل حتى أخذه عامل النظافة باكرا أمام أعيننا وتيقنا أننا تخلصنا منه إلى الأبد، كيف هو الآن بين يدى صغيرى وسط ألعابه؟! شىء يدعو للجنون والخوف معا...
تربينا جميعا أنا وأبناء العم بمنزل "جدنا وجدتنا" حسب رغبتهما على حد علمى لكنهما غادرا الحياة ونحن صغارا فكان أكبرنا لم يتجاوز عامه الخامس عشر، كان كل ما نعيه آنذاك أن كل منّا سيذهب لبيتِ أبويه ويبدأ العيش معهما بالشكل الطبيعى، ظلت أمى أعواما ما تروى لنا عن الحب الأبدى الذى اجتاح قلب جدى وجدتى بل اجتاح كل جنبات منزلهما، عاشوا دائمين الحرص على المحبة، المحبة المطلقة، المحبة لكل أفراد العائلة فكان الجميع يجتمع لديهم فى سهرات عائلية صاخبة يمكن أن تستمر حتى بزوغ الفجر، الكل منهمك بين طهى الأكل وتقديمه، توزيع المشروبات، سماع الاغانى ومرورا بألعاب التسالى "كالطاولة"، "الشطرنج" وغيرهم، إن الجميع على دراية تامة بحالة الحب والتناغم بين جدى "سلمان" وجدتى "عاليا" إلى أن استفقنا ذات صباح كئيب على تلك الصدمة، إنها الفجيعة الأولى التى مرت بعائلتنا، أن تستيقظ صباحًا فتجد جثتين هامدتين معا بقلب توقف عن النبض دون أسباب واضحة المعالم!! كيف يموت الإثنين معًا فى آن واحد؟! تلك المصادفة الأغرب على الإطلاق، كنت صغيرة ولا أعى حقيقة الحدث لكن ليس هناك شىء سوى أنهم توفوا بذات التوقيت!! الجميع فى ذهول ثم سرعان ما تُقُبِل الأمر وصار فى طى النسيان..
تزوجت من ابن عمى تلك وصية جدى "سلمان"، لم يكن حب العمر ولا بفارس الاحلام لكننى طالما شعرت بالطمأنينة جانبه، إنه حنون بطبيعة حاله، يتفطر قلبه إن ارتفعت حرارة صغيرنا الوحيد قليلاً، قررنا معا الانتقال من منزل الزوجية الذى قطنا به لثلاث سنوات إلى منزلنا الجديد، كان القرار الصائب أو الاختيار الوحيد أمامنا بعد أعوام من أحداث ليس لها تفسير مريح، لقد عشنا الخوف والهواجس وأحيانا رؤية أشياء غريبه بالمنزل إلى أن تركناه لنبدأ حياة جديدة ببيت آخر يخلو من كل ما فات، لم نكن نعلم أننا سننتقل بمخاوفنا وهواجسنا معا، ليتنى لم أدخل غرفة جدى وجدتى تلك الليلة البائسة وأطلع على ما كان لا ينبغى أن أطلع عليه... كنا مجتمعين كعادتنا نهاية الأسبوع ببيت العائلة وكان قد مر على زواجى بضعة أشهر قليلة، دلفت غرفة جدى وجدتى وعبثت فى فضول بأشيائهم القديمة حتى أن وجدت "دفتر" فهمت للوهلة الأولى أنه دفتر مذكرات أحدهم أو كلاهما معا أجل كان كلاهما يدون بالدفتر يوميات لم أكن أعلم جحيمها، لم أتوقع أبدا ما قرأته، كيف ترعرعنا بين كل ذاك الزيف؟!..
كانت الصدمة الأولى حين قرأت ما كتبته جدتى بالصفحات الأولى من الدفتر، إنها تمقت جدى كثيرًا، لم تحبه قط، تزوجا بضغط الأهل لحسابات عائلية تختص بالميراث والتركات التى لن تذهب سدى، ومما أدهشني كثيرا أن جدى هو الآخر كان يكتب بنفس الدفتر مما يعنى أنهما كانا يقرآن ما كتبه كل منهما عن الآخر، حقيقة الأمر مريبة! كيف عاشا بتلك الأكذوبة الخادعة، وكيف نحن لم نلحظ صحة الأمر، إنه لشىء قميء أن تحيا بوجه آخر دون وجهك الحقيقى، أن تحيا وتستمر وأنت زائف، كل الزيف يغمرك، لقد كانا بمثابة القدوة لنا نحن أبناء العم والأحفاد، كانا نموذج حيًا ينبض بالحياة المفعمة بالتفاهم والسعى نحو الآمال، أشعر بالغثيان كلما أتذكر أننا كنا مجرد بمحض مسلسل سخيف انتهت حلقاته بموت أبطاله بعد أن قدموا لنا ملحمة من التعاسة فى أبهى صورها، لكن هناك جزء أخير بالمسلسل لم تكتمل حلقاته بعد، إنه الجزء الأبشع فلا يمكننى تصور أوتوقع أن أجد تلك الطلاسم المشئومة بالدفتر الملعون، نعم إن اللعنة حلت به وبمن يملكه لما يحويه من كلمات غير مفهومة وطلاسم شيطانية لا يستخدمها سوى من استعان بالسحر والشعوذة، إنه السحر الأسود الذى حول حياة الآخرين للجحيم والهلاك، كنتَ تعمل بالسحر الأسود يا جدى سلمان؟! يُذْكَر بالدفتر كل من اقترفت بحقه سحرا !! لقد آذيتِ أناسًا كثيرة يا جدتى أنتِ الأخرى!! هل كل ذلك كان من أجل صراعات عائلية للاستحواذ على المال أم أن الكُره الذى تغلغل داخل صدركما جعلكما تمقتون العالم أجمع؟! مذكور بالدفتر كيف أنكِ يا جدتى تسببت في حرمان إبنه عمك من الإنجاب بالأعمال السفلية كى تصبحين الوريثة الوحيدة لها بعد أن كنتِ سببًا فى موتِ شقيقتيها اللتان كانتا تثق بكِ كثيرًا...
كانت الرعشة تسري فى جسدي وأنا أقرأ أن جدى "سلمان" استولى على ميراث أخويه أيضا بتلك الشفرات البغيضة، أراها شفرات من الصعب فهمها أو فك طلاسمها، لم أكن أعلم أن اللعنة قد مستنى بمجرد قرائتها والتمعن فيها، لقد طالنى أذاها بكل سهولة بعد أن فهمت كيف أن موتهم معا كان "بأخد عزيز مقتدر"، لكن ما ذنبى أن أعانى لعنتهم ولعنة أسحارهم؟ "الدفتر" مازال معى ملاصقا لى حاولتُ التخلص منه وبائت محاولاتى بالفشل، أتذكر حين وضعته بحقيبة سمراء وألقيت به فى النهر ثم عثرت عليه بخزانة ملابسى، كدتُ ذلك اليوم أن أُجن أو أفقد حياتى بعد الشعور بنفاذ الصبر وخيبة الأمل، لقد تركت منزلى بلعناته و"دفتره المشعوذ" واليوم بالمنزل الجديد الذى لم نهنأ به سوى القليل أجد الدفتر بين ألعاب صغيرى البرئ، سأحرق الدفتر حتى يصبح رمادا أمام عينى ولن أترك الفرصة لشئ يكدر صفو حياتى لكنى أخشى أن أذهب ذات يوم لأبتاع كتابًا يحوى قصصًا لصغيرى المدلل وأجد الدفتر ينتظرني بين الكتب على إحدى رفوف المكتبة... وهذا ما حدث بالفعل!!.
التعليقات